نحن والقيامة

“أيتها المرأة”! كان هذا أول كلام تلفّظ به المسيح بعد قيامته من الأموات (يوحنا 20/15). وأول اسم نبسته شفتاه كان اسم امرأة: “مريم”. وأول عينين أبصرتا وجه المسيح الجديد، وأول يدين لمستا جسد آدم الجديد القائم من الأموات، كانت عينا امرأة ويدا امرأة: “فتقدّمتا والتزمتا قدميه ساجدتين له” (متى 28/9).

وإذا بصباح القيامة يلتقي صباح أول أيام الخلق. فثمة كانت المرأة تختبئ من خالقها وقد أخجلتها الخطيئة، وهنا يأتي المخلص لملاقاة المرأة المفتداة، فيرسلها تنقل البشرى. لقد قهر المسيح الخطيئة والموت، وأعاد للإنسانية ما فقدته من نقاء كان نصيبها في جنة عدن.

وإذا بالموت يُبَدِّلُ اسمُه ، فالحياة لا تزول به، بل تتبدل. ومن تلك اللحظة تستطيع مريم المجدلية (كما يستطيع كل إنسان حي) أن تهتف فَرِحة وتقول: “لن أموت، لا أنا ولا جسدي ولا روحي ولا أي جزء من كياني”.

إنه هتاف الفصح، يطلقه المسيحيون.

 

الفصح مستمر:

إلاّ أنه من المؤسف أن يكون الفصح بالنسبة إلينا اليوم عيداً وذكرى، لا واقعاً حياتياً مستمراً. أناس كثيرون يرون أنه ذكرى لأمر “مضى”، أي قيامةِ المسيح، ولا يدركون أنه أمر يدوم، أعني “أننا الآن نقوم من الأموات”.

ينبغي أن يكون الفصح ذلك اليوم الذي نغنّي فيه، نحن المسيحيين، مع إخوتنا، ولكن ينبغي أن يكون قبل كل شيء اليوم الذي نعلن فيه للعالم فرحنا لأننا على يقين من القيامة، وفرَحَنا لأن حبّنا تجدّد، وأمَلَنا في انتصار الحياة على الموت انتصاراً لا يزول. وما سبب ذلك إلاّ لأن الفصح هو بالحقيقة كل لحظة من لحظات حياتنا. فصحنا دائم، فصحنا كائن.

ومن هذا المنطلق، أشعر، وأنا على عتبة التكلم عن حقيقة الفصح الحيّة، بالحيرة، وأخشى أن أظل في نطاق النظريات البحتة محدّداً ما هو الفصح، لا ما هو “فصحنا”.

يخيّل إليّ أن الإلحاد المعاصر مردُّهُ الأعظم إلى كوننا قَدّمنا للعالم خبرتنا في الإيمان، دون أن نجسّدها في الواقع، فكانت مجردة إذ يصعب علينا التكلم عن إيماننا نحن. ولقد أثرَ فيّ كل التأثير أحد الجامعيين الشباب، لما انتهى من نقاش طويل حول فيلم برغمان “المتناولون”، وسألني دون مسايرة ولكن بكثير من الصدق والإخلاص: “إن ما أريد أن أعرفه هو: لماذا أصبحت كاهناً، وما معنى الإيمان في حياتك أنت”؟

 

أنا واثق كل الثقة بأن إنسان اليوم أحوج ما يكون الى الوصول إلى الإيمان من خلال خبرة قريبه الحياتية. وما دامت هذه الحاجة ضرورة، فأغلب الظن أنها الطريق الذي يريده الروح القدس اليوم.

لعل الإنسان المعاصر متخوم، أتخمته الإيديولوجيات والعقلانيات، ولعله في أمور الإيمان بحاجة إلى تبصّر نور الحقيقة في عيني قريبه، والعثور على الرجاء في يديه المبسوطتين للعطاء، وفي قلبه الزاخر بالتفهم والمقدرة على الحوار والصداقة والثقة.

لذلك فقد آثرت ألاّ أقول ما “أعرفه” أنا عن حقيقة الفصح، وألاّ أبدي نظريات علماء اللاهوت المعاصرين فيها، بل أحببت أن أقدّم رأياً “شعبياً” في هذا الحدث العظيم. لقد فضّلت اللجوء الى شهادة مسيحي مجهول، أحد الذين لا يَرِد له ذكر في الصحف أو المجلات، أحد الذين يعيشون مثلك، يوماً بعد يوم، المغامرة الإنسانية في عظمتها وبساطتها.

ولمّا كان المسيح قد اختار امرأة لإعلان بشرى الفصح السعيدة، فقد اخترت أنا أيضاً امرأة. اخترتها فتاة ليكون صوتها عذباً، جريئاً، عفوياً، صادقاً، حياً. وهي ليست من ذوي الثقافة الجامعية ولا من أرباب الفكر، وما ستقوله لك إن هو إلاّ ثمرة خبرتها المعاشة، ولا هو مقتبساً من كتاب صلاتها.

إنها فتاة أشبه باللواتي تلتقيهن كل يوم في الشارع والمكتب والسينما والكنيسة. إنها “إحدى المسيحيّات” على حد ما وقّعت نصّها، وقد زادت بين هلالين (عمري تسع عشرة سنة ودروسي ابتدائية). كانت تستمع الى محاضرة دعا إليها فريق من الشباب، فسألتها أن تكتب بصورة عفوية ما هوالفصح بالنسبة إليها، فكان جواب هذه الفتاة المجهولة أصفى ما عرفتُ مسيحيةً وأعمقَ ما رأيتُ لاهوتاً.

قرأت الجواب وأعدت قراءته مرة بعد مرة، وفكرتُ فيما كتبه اللاهوتي الكبير كارل راهنر: “لا يحق لنا أن نقيم الحدود الإعتباطية لنعمة المسيح خارج الكنيسة، ونقول بأن عنصر المواهب الروحية هو وقف على تلك الكنيسة”.

أجل، وبأول حدة لا يحق لنا أن نضع حداً لمواهب الروح داخل الكنيسة، جاعلينها وقفاً على نخبة من الإكليرس وأرباب السلطة الدينية.

فقد كتب كارل راهنر أيضاً: “لو كان قلبنا على قسط ضئيل من البساطة، لوجدنا في الكنيسة العجب العجاب، ليس في سجلات تاريخها فقط ، بل أيضاً في أمانة بنيها الخفية، وفي طيبتهم المجردة عن المصالح، وفي اقرارهم غير المتساهل بالحقيقة رغم ما ينتج لهم عن ذلك من متاعب، وفي ثقتهم بأن قلب الله أعظم وأرحب وأغنى رحمة من قلبنا”.

هذه الصفحة التي خطّتها احدى المسيحيات المجهولات المعدومات الثقافة، لهي مَثَلٌ، بين ملايين الأمثال، من غنى الكنيسة الخفية التي غالباً ما تجهلها السلطة الكنيسة، والتي هي بلا شك الخميرة الحقّ في عجين الجماهير، والملح الحقيقي الذي بفضله تصان كنيسة المسيح من الفساد.

نقول، بساتخفاف غريب، إن شبيبة اليوم لا تشعر بالحقائق التي تعدو المرئيات، وأنها سطحية في أمور الروح. أليس مرد ذلك الى كوننا نفتقر الى حس مرهف، نستطيع به سماع أصوات ضميرها العميقة، والرسالة الجديدة التي يبثنا إياها الروح بواسطتها؟

 

صوت من العامة ينشد نشيد الفصح:

“الفصح بالنسبة إليّ حبور واغتباط. أعرف أن المسيح قام، أشعر بذلك، وذلك ما يغمرني بالفرح. أفرح إذ أشعر بأني في اتحاد مع الخالق والخليقة، أفرح إذ أرى صورتي في عينَي الإنسان فأستطيع أن أقول له: كلانا جديد مجدّد.

ها قد ولّت المحنة، فقد انتشلَنا المسيح من عزلة كانت لا تنفك تزيدنا فقراً، وإذا به يقودنا الى الحب، أعني يُعيدنا الى طبيعتنا الحقيقية، طبيعة بشر خُلقوا للحب.

وها نحن نستطيع الآن التنزه في الخليقة وبذلَ أنفسنا للجميع. ها نحن نستطيع الآن المجاهرة بأننا بشر يحملون في صدورهم صورة الخالق، أعني أنهم يكتشفون، لا بل يملكون القدرة على بذل ذواتهم، ونسيان عزلتهم وطول محجتهم على هذه الأرض منذ الخطيئة الأصلية.

وها نحن نستطيع مُنذ الآن السير نحو ذلك الكمال الإنساني الذي يُدعى يسوع المسيح، ويسعنا الآن الشعور بأننا من أسرة الله ما دام الله أكثر من خالق وسيد للخليقة، ما دام الله أباً حقاً للإنسان وأخاً حقاً له بواسطة المسيح. لذا فإنه بوسعنا المساهمة مع الله في إكمال الإنسان والأشياء بصورة مستمرة.

الفصح! إنه بالنسبة إليّ سر ينبغي تفسيره، وفي الوقت ذاته حقيقة رائعة ينبغي أن أعيشها. لو كنت أحسن التعبير عن فكرتي باستعارة لقلت: لقد خُطِبَت الإنسانية بواسطة مريم الى الله في يسوع المسيح، والأناسُ الأحرار الذين يقبلون أن يولدوا من هذا الزواج العجيب سوف يعرفون الحب، وهو الأمر الوحيد الذي يعطي حياتنا معنىً وهدفاً. وما عساني أزيد فأقول عن فصحي؟”     إحدى المسيحيات

 

لا شك أن أقلّ ما يدعو الى الإهتمام في هذه الأسطر الرائعة هو دِقّتها اللاهوتية. فالمهم فيها غناها العفوي النابع من خبرة دينية أصيلة، حرة، نضرة في نضارة أزاهير الحقول، خبرة نجد فيها سائر العناصر التي يجدها اللاهوتيون في السر الفصحي.

أجل، ففيما كان فصح اليهود يحيي ذكرى خروجهم من مصر، أرض العبودية، إذا بالفصح المسيحي يجمع سائر تلاميذ المسيح ويوحدهم بالرب الذي حررهم من الخطيئة بموته وقيامته. لذا فقد ركّزت فتاتنا فصحها على المسيح، وأدركت أنها أُعتِقت من الخطيئة في أقرب الأبعاد الى حياتها وواقعها، ألا وهو “العزلة”، وقد فهمت أن التحرر بالنسبة إليها هو ما يُدخل الإنسان مُنذ الآن في أرض الميعاد الوحيدة، أي الحب.

والفصح هو اغتباط وحبور حيّ عندما يصل الإيمان الى حدّ من الإستنارة يتحول معه الى حكمة وخبرة. فالفصح، إذا ما “أُدرك” فقط، بقي فصحاً لا حرارةً فيه، لذا فقد قالت الفتاة عن القيامة: “أعرفُ أن المسيح قام، أشعرُ بذلك، وذلك ما يغمرني بالفرح”.

وإذا كان الفصح عند اليهود عيداً عائلياً، فقد صار مع المسيح أكثر من ذلك، إذ اصبح شركة معه واتحاداً. بالفصح المسيحيّ يقدّم يسوع ذاته طعاماً، ومَن يتناوله من تلاميذه يتناول السماء والأرض ويمسي معهما في شركة واتحاد. ذلك ما يجعل فرح الفصح فرحاً، مشتركاً، عائلياً، اخوياً، لأن التحرر بالمسيح ينفي كل أثَرَة وأنانية. وذلك ما عبّرت عنه هذه الفتاة لما كتبت: “فرح، إذ أشعر بأني في اتحاد مع الخالق والخليقة، فرح إذ أرى صورتي في عينيّ الإنسان فأستطيع أن أقول له: كلانا “جديد مجدّد”.

كلام كأنه من صميم الكتاب المقدس: “كلانا جديد”، فبولس الرسول ينبئنا “بحياة جديدة في المسيح القائم من الأموات (روما 6/14 وكولوسي 2/12)، ودانيال النبي يتكلم عن “الحياة الجديدة المنوّرة”، ويوحنا الإنجيلي يعلن أننا قد قمنا من الأموات.

الواقع اللاهوتي هو أننا منذ قيامة المسيح أناس “جدد”، ممّا له أبعد الأثر على مناقبية “الإنسان الجديد” القائم مع المسيح، حسبما فهمه القديس بولس (كولوسي 3/1). فالمسيحي في نظر رسول الأمم يشعر في جسده بالشوق المتحرّر الى التحول التام، وما ذلك إلاّ لأنه يحمل في قلبه عربون العرس العتيد (روما 8/3، والثانية الى أهل قورنتس 5/5)، وما القيامة الأخيرة إلاّ تجلّي ما قد أصبح حقيقة في ذواتنا (كولوسي 3/4). لذا فإنه من الطبيعي أن الذي يعيش الفصح على حقيقته، يشعر حتى في جسده بأنه “جديد”، وبأنه سعيد بذلك ويحتاج الى إعلان هذه الحال على إخوته وعلى الملأ.

وثمة مقياس واحد لنتبيّن أننا قمنا حقاً من الأموات، وهو حب البشر. ذلك ما قاله يوحنا الرسول بوحي من الله: “نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت الى الحياة لأننا نحب إخوتنا” (1 يوحنا 3/1). ولهذا السبب ترى الذي قام حقا من الأموات يسلك مسلك هذه الفتاة، فيشعر بأنه مدفوع الى البحث عن نظرة من قريبه، عن الشركة معه، عن البذل والعطاء.

وما عسى تكون ثمار هذه “الحياة الجديدة”؟ إنها أشبه شيء بالعودة الى الفردوس، الى ما قبل الخطيئة. لذا تشعر هذه الفتاة من نفسها بدافع الى “التنزه في الخليقة وبذل نفسها للجميع”. تلك هي الصداقة الجديدة بين الإنسان والخليقة جمعاء، وكأنها بشير ينبئ بأن لا شيء بعد الآن يقوى على إيذائه، إذ إن “كل مولود لله لا يقترف الخطيئة” (1 يوحنا 3/9)، كما إنه “لا خوف في المحبة”، على حد ما قال القديس يوحنا (1 يوحنا 4/18).

إنك لتشعر وأنت تطالع صفحة صديقتنا الشابة هذه، بلهجة تخفق فيها روح القيامة على نحو ما يفهمها الكتاب المقدس. فهذا المفهوم يختلف عما يراه الكثير من المسيحيين، السائرين في ركاب الفلسفة اليونانية، من أن الروح غير المائتة تتحرر من الجسد لتدخل في أبدية الله. بل إنه يقول بقيامة “الشخص” كاملاً في جسده وروحه، محققاً بذلك النصر على الموت. إنه يقول بشخص يُبعَث في جسده في “الأرض الجديدة” ويمسي أخاً للمسيح الأرضي. لذا يَدفع الفرحُ الفصحي فتاتنا الى التفكير بخالقها. لذا تراها تتشوق الى الإتحاد بالخليقة كلها، وتشعر بأن كمال الإنسان يكون في المسيح ومع المسيح، الذي يدعو الى “المساهمة مع الله في خلق مكمّل للإنسان والأشياء بصورة مستمرة”. إنه عِلم اللاهوت الحديث بالذات، ما سُمّي بلاهوت “التجسّد” أو لاهوت “المعاد”، وقوامه أن المعاد ليس بمكان “آخر” أو وقت “آخر”، بل هو نهاية تطور نحن الآن فيه وندفعه الى الأمام في لحظة، بسعينا الى تطوير العالم وبإدخالنا خمير الخلاص في التاريخ. وإنها فكرة راسخة الجذور في الكتاب المقدس، حيث نقرأ أن المسيح بتجسده وقيامته “يؤالف بين الأرض والسماء في وحدة لا تنفصم”، هو الذي نال “كل سلطان في السماء وفي الأرض” وأبرم “العهد الجديد”.

لم يفقد الإنسان الجديد جذوره الأرضية، بل الأمر على العكس، إذ إنه “يملك الأرض” (رؤيا 5/10)، وهو وإن كان في طريقه الى تمام الأزمنة، فلا يسعه أن يصمّ أذنيه عن “أنين” الخليقة التي تنتظر هي أيضاً خلاصها (روما 8/22).

ولئن كانت هذه الحقيقة على جانب من الغموض، فلا يجوز أن يُتّخذ من ذلك ذريعة للتكاسل أو القنوط، لأن “الآرض الجديدة” قد بدأت وبوسعنا الوصول إليها عن طريق “الحكمة”. وهذه الحكمة هي المسيح نفسه، الحي فينا، والمتحول الى مَعاد سابق لأوانه (يوحنا 4/14، 5/24، 6/35)، لأنه أعاد الى الأرض ما سبق ونعمت به من تآلف وانسجام بين الخلائق في جنة عدن: “وكان يصحب الوحوش” (مرقس 1/13). لذا فإن كل مسيحي مخلص، إذا ما قبل المسيح الحي، ليستطيع – رغم ما يخالجه من قلق ورهبة أمام السر – أن يهتف على نحو ما هتفت الفتاة: “الفصح! إنه بالنسبة إليّ سر ينبغي تفسيره، وفي الوقت ذاته حقيقة رائعة ينبغي أن أعيشها”.

ولقد أدركت هذه الشابة أيضاً أنه لا بد، للوصول الى “عيش الفصح بالفرح”، من “الولادة الجديدة” على حد ما قاله المسيح لنيقوديموس. الولادة تعني القيامة بفضل سر زواج الله بالإنسانية، زواج لن يتحقق بعد التجسد والقيامة إلاّ عن طريق قلبَي المسيح وأمه.

يسوع ومريم هما رمز وحقيقة، هما ثمرة الحياة الجديدة والمرآة الصافية التي يشاهد فيها كل مخلوق نفسه. هما طريق ونعمة، بذور وطعام. لذا فإن مريم تظهر في سفر الرؤيا نموذجاً لحواء الجديدة، كما أن المسيح هو آدم الجديد. ومن هذا المنطق نفهم عقيدة انتقال العذراء الى السماء، فهي على اتصال وثيق بعقيدة قيامة المسيح من الأموات.

لا شك أن النفس الممعنة في مسيحيتها، غالباً ما تفوق اللاهوتيين إدراكاً لحقائق عميقة وخفية، لا يتم جلاؤها إلاّ في ضوء حكمة تنبع من بساطة الإنجيل.

شارك مع الأصدقاء!

Facebook
WhatsApp
Email
Twitter
Telegram