مقال بعنوان: الحياة ما بعد شيرين!

أرغب في أن أعطي على ذلك مثلًا ما زلنا نعيشه. وهو ما قبل وباء الكورونا، وما بعده. فما قبل هذا الوباء كان العالم يعيش تسارعًا غير معقول، لدرجة وصل به الحال إلى اختراع آلات عملاقة غير مرتبطة بمجهودٍ آلي وانما بساعات عمل كبيرة. وما بعد كورونا نقلت بعض الشركات والمؤسسات مكان عملها من المكاتب والمراكز الرئيسية إلى بيوت الموظفين، ليصبح هناك نظام جديد بهذه الطريقة وهو التقليل من استهلاك الموظف داخل الشركة بمقابل انتاجية مماثلة من المنزل… وتتعدّد الأمثلة والقصص والأحداث: ما قبل وما بعد أي قصة أو قضية!

واليوم يمكن أن نقول: ما قبل شيرين وما بعد شيرين. أصبح هذا الاسم يحمل أبعادًا كبيرة على كل المستويات الدولية والاقليمية والمحلية؛ سياسيًا وثقافيًا واعلاميًا وفلسطينيًا! من هي شيرين أبو عاقلة؟ ما هي رسالتها؟ وماذا فعلت؟ ولماذا كل الكمّ الهائل من الاهتمام بها؟

تعود جذور شيرين أبو عاقلة إلى مدينة الميلاد بيت لحم، لكنّها ولدت وترعرعت في القدس، حيث أنهت دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا. وهي خريجة قسم الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك الأردنية، مع العلم بأنها بدأت دراستها الجامعية بدراسة الهندسة المعمارية مدة سنة واحدة ولكنها لم تكن راضية عن نفسها فتحوّلت إلى الصحافة. بدأت العمل في الصحافة في العام ١٩٩٤ عندما أُنشِئت محطة “صوت فلسطين”، ثم كانت مراسلة لقناة الجزيرة، وفيها اتسعت شهرتها وواكبتها الجماهير الفلسطينية والعربية عبر شاشتها وخصوصا مع بداية الانتفاضة الثانية.

حملت شيرين رسالة سامية مدة أكثر من ربع قرن، قاومت بطريقتها، وصمدت بروحها ونفسها، وصدح صوتها عبر كل المنابر بأن هنا فلسطين المحتلة، وكان الميكرفون الذي تحمله هو الاداة الوحيدة التي نطقت من خلالها بالحق والحقيقة والحرية! ومنه أيضًا أوصلت لا صوتها فقط بل صوت الانسان المتألم للعالم، فقد كانت تقول في إحدى أجمل كلماتها: “أخترت الصحافة لكي أكون قريبة من الإنسان، ليس سهلاً ربما أن أغيّر الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم…”

ما كانت تقوم بهِ شيرين خلال حياتها هنا في فلسطين بسيط وعميق وجوهري واساسي ومن دون بهرجة إعلامية مزيفة، فهي التي كانت تساعد المرضى في تغطية تكاليف العلاج، وهي التي كانت تقدّم وجبات إفطار رمضانية للصامدين في المسجد الاقصى، وهي نفسها التي تركت الميكرفون وذهبت مع امرأة من مخيم جنين لتبحث عن ابنائها! وهي أيضًا الإنسانة اللطيفة في التعامل وصاحبة الظل الخفيف، وهي نفسها التي كانت على خط النار في كل اقتحامٍ عسكري لجيش الاحتلال، ومع ذلك لم تأبه لتعرضها للخطر وظلت تنقل واقع الاحتلال الظالم كما هو!

هؤلاء هم أنقياء القلوب الشجعان، الذين يرون الإنسان والحقيقة، وينقلون الحقيقة، ويوقظون الضمائر، على قيمة وكرامة الإنسان. في حياتهم بسيطون وفي عملهم جدّيون، وفي حمل رسالتهم مواظبون، وفي اعلاء صوت الحق صارخون… وفي مماتهم كانت آلاف الحناجر تصدح باسمها… فمع أن الرصاصة التي أصابت شيرين قتلتنا كلّنا، إلا أنها أعادت إلينا الحياة، ليس الرصاصة، بل حياة شيرين، أعادت إلينا الحياة، ووحدتنا واعادت تصويب البوصلة نحو القضية الأساسية “فلسطين”. فالقضية ليست قضية دينية، وليست طائفية ضيقة، أو عرقية أو ما شبه… هي قضية وطنية انسانية لا تحتمل أي تصنيف آخر، إلا أنها قضية شعب يطلب حريته. 

فشيرين التي قالت الحق، الحقيقة كانت واضحة في أصوات من هتف باسمها في جنازتها، وهي التي كانت صوت الضمير أيقظت بموتها ضمائرنا جميعًا، وهي التي حاربت من أجل نقل صوت الانسان المظلوم والمتألم نبهت في داخلنا نار الحب للوطن الذي ولِدَ فينا من جديد.

فالحياة قبل شيرين انقسام وفقدانٌ للأمل والبوصلة، والحياة بعدها تصويب البوصلة، إحياء للإنسان، وللحرية، وبثّ الأمل في القلوب من جديد. بعد شيرين عادت الأمور واضحة تعني معانيها: فلسطين والقدس والشعب الفلسطيني والحرية والاستقلال. سلامٌ لمن رحلت عنا وهي حيةٌ في كل قريةٍ ومدينةٍ ومخيم!

بقلم ابونا بشار فواضله

المرشد الروحي للشبيبة المسيحية في فلسطين “شبيبة موطن يسوع”

شارك مع الأصدقاء!

Facebook
WhatsApp
Email
Twitter
Telegram