شرح كتاب في وصية المحبة

وصية يسوع الجديدة

التدرُّج في وصية يسوع الجديدة

في قراءتنا للإنجيل نلاحظ على الفور تدرجاً في تعليم يسوع الخاص بمحبة القريب رائع الجمال. يطالعنا هذا الموضوع لأول مرة في إنجيل متى عندما يحاول فريق من الفريسيين تجريب يسوع .” وبلغ الفريسيين أنه أفحم الصدوقيين … ما هي الوصية الكبرى؟ … أحبب الرب إلهك …تلك هي الوصية الكبرى … و الثانية … أحبب قريبك كنفسك …. (متى 22 : 34 –40 )

هذا المقطع ينتمي إلى وحي العهد الجديد بوضوح رغم أن له  جذوراً في العهد القديم .

فلو قارنّا ما جاء في العهد القديم عن محبة القريب مع النص المذكور في متى لبان لأعيننا فرق كبير، فوصية حب الله في العهد القديم توجد في سفر تثنية الإشتراع ( 6 : 4 – 9 )”اسمع يا إسرائيل : الرب إلهنا ربُّ أحد … أحبب الرب إلهك من كل قلبك و كل نفسك و كل قدرتك … تثنية ( 6 : 4 9 ) هذه الوصية وصية حب الله على ما يظهر معادة في الإنجيل ، و تعود إلى وحي الوصايا العشر في زمن أراد فيه الله تثبيت إيمان الشعب على وجود اله واحد – خالق جميع الأشياء ، ليحميهم من خطر السقوط في السحر و الشعوذة و عبادة الأوثان .

في مثل هذا الإطار نجد فكرة واضحة عن الله الذي يفوق جميع الأشياء ، الله الفائق العظمة إلى درجة التحرج من لفظ اسمه و الذي ينبغي عبادته و محبته من كل القلب و كل النفس .

و هنا أعظم و أروع خطوة للعهد القديم ، فيها يوصي بوجود الله – الكائن – الكل في الكل بالنسبة للشعب – الملجأ الوحيد و القوة الوحيدة و الذي يتطلب المحبة الكبرى .

و هنا لا يوجد تنويه عن محبة القريب . فالجملة التي تحمل في مضمونها محبة القريب نجدها في سفر اللاويين الأحبار ” لا تنتقم و لا تحقد على أبناء شعبك و قريبك أحببه كنفسك … ( 19 : 8 ) ما هو إطار هذه الجملة ؟ نجدها مدرجة في سلسلة من التنبيهات التي يعلنها الله مطالباً بها الإسرائيليين أن يكونوا طيّبين ” نلاحظ أن هذا التنبيه بخصوص محبة القريب غير موضوع في موقع خاص أو بارز الأهمية كالأمر الذي رأيناه يتعلق بالمحبة تجاه الله ” .

بالإضافة إلى ذلك لم يقل فيها ” أحبب كل الأشخاص كما تحب نفسك ” فالقريب ككلمة كانت تعني آنذاك الفرد من شعب إسرائيل .بينما نرى العكس في الإنجيل . يُسأل يسوع : ” يا معلم ما هي أعظم الوصايا في الشريعة ؟ ” يجيب يسوع و لا يعلن وصية واحدة من وصايا الشريعة و إنما وصيتين – يربط وصية محبة الله ، المتعارف عليها كأكبر الوصايا مع وصية محبة القريب .

الخطوة العظيمة الأولى في العهد الجديد:-

“ما هي الوصية الكبرى في الشريعة ؟ ، يجيب يسوع ” أحبب الرب إلهك من كل قلبك و كل نفسك و كل عقلك . و هذه هي الوصية الأولى و العظمى . و الوصية الثانية تشبهها …”.

” هنا وحي يسوع الجديد :_يوجد وصية ثانية ، ليس لها علاقة مباشرة بالله _ لكنها مشابهة لوصية المحبة تجاه الله . و هي ” أحبب قريبك كنفسك “

يُمكن التنويه إلى أن ترابط هاتين الوصيتين بدأ بشكل ضمني في العهد القديم و لكنه لاقى اكتماله ووضوحه في تحديد يسوع له . لأن يسوع لم يأت ليدمر و يبطل بل جاء ليتمم … في نص إنجيلي آخر يوضح الرب معنى محبة القريب بشكل أفضل ، لوقا يورد مقطعاً يسكت عنه إنجيل متى و هو سؤال معلم الشريعة :” و من هو قريبي؟ ” و كان هذا السؤال يُطرح آنذاك بدليل أن الجملة المستشهد بها في العهد القديم تحدد القريب  ب ” فرد من شعب إسرائيل ” .

علينا أن نلاحظ في دراستنا لهذا النص الكتابي أننا نحن المسيحيين معتادون على فهم كلمة القريب بالمعنى المسيحي :” قريب ” بالنسبة لنا معناها ” أي إنسان قريب مني ” القريب ” هو الذي نتقابل معه في الطريق ” القريب هو الإنسان ككل ” –لكن هذا المعنى لم يكن محدداً هكذا في زمن يسوع لذا يضطر يسوع أن يجيب على  سؤال معلم الشريعة بمثل السامري الرحيم :-

” كان رجلٌ نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بأيدي اللصوص … فاتفق أنّ كاهناً  كان نازلاً … و كذلك وصل لآوي …و وصل إليه سامري مسافر … رآه فأشفق عليه فدنا منه و ضمد جراحه و صب عليها زيتاً و خمراً ثم حمله على دابته و ذهب به إلى الفندق و اعتنى بأمره … و في الغد أخرج دينارين . … من كان في رأيك مِن هؤلاء قريب الذي وقع بأيدي اللصوص ؟ فقال الذي عامله بالرحمة … فقال له يسوع ” اذهب فأعمل أنت أيضاً مثل ذلك” .

من هو القريب إذن ؟ هل هو ابن عشيرتي ؟ هل هو قريب الدم ؟ هل هو المنتمي إلى شعب إسرائيل ؟ هذه معان كلمة كانت تعطى في العهد القديم . أما الجواب الواضح .” من كان في رأيك مِن هؤلاء الثلاثة قريب الذي وقع في أيدي اللصوص ؟” و معناها الحرفي هو ” من في رأيك مِن هؤلاء الثلاثة قريب الدم للّذي وقع في أيدي اللصوص ؟

فكلمة قريب لا تزال مستعملة على لسان يسوع بالمعنى القديم قريب الدم .

و لكن القرابة الجديدة التي يعرضها يسوع لن تكون دعامتها الدم أو الانتماء إلى جماعة دينية ولكن دعامتها الحياة الدينية و التعامل الروحي . محبة القريب من تلك اللحظة تعني : ” أن نرى أقرباء في جميع اللذين نقابلهم “.

والأدهى أن يسوع كي يفهمنا بشكل جيد من هو القريب يعرض لنا حالة شاذة – شخصية السامري ، فالسامريون الآتون من أرض  بابل استقروا بين شعب إسرائيل، ثبتوا مقاييس دينية شبيهة بالدين اليهودي لكن شعب السامرة لم يكن الشعب اليهودي ، لا بدينه إذْ  لم يكن يعترف بالدين اليهودي ككل – ولا بتقاليده و لا بشعائره ولا بأنسابه . بَنَى السامريون معبداً على جبل جرزيم و عبدوا الله بلا صور منحوتة لكنهم لم يعترفوا بهيكل أورشليم : لذا أقاموا على أنفسهم كهنة للمضاربة على كهنوت أورشليم . 0

هذا الحوار و هذا الدين المتشابه و هذه المضاربة أدت إلى العداء المتواصل ما بين السامرين و اليهود لنتذكر أيضاً لقاء يسوع بالسامرية : أجابته بدهشة عندما طلب منها الماء : ” كيف تسألني أن أسقيك و أنت يهودي و أنا امرأة سامرية ؟ و يوحنا الإنجيلي يفسر ذلك بقوله ” لأن اليهود لا يخالطون السامرين “

كلمة قريب ” التي في إطار العهد القديم كان يمكن فقط قصرها على فريق متجانس معين أو على فريق روحي محدد يظهر الآن معناها الحقيقي : يجب تجاوز جميع الحدود بين البشر –و محبة جميع الناس حتى الأعداء منهم .

      الخطوة العظيمة الثانية في تدرج يسوع عن محبة القريب نصادفها في إنجيل متى عندما

يتحدث يسوع عن العدل النهائي :- ” ثم يقول الملك للذين عن يمينه ” تعالوا يا من باركهم أبي … لأني جعت و عطشت … و كنت غريباً …و مريضاً… و سجيناً … فيجيبه الأبرار متى؟ … فيجيبهم الملك : الحق أقول لكم : كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من اخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه ” ( متى 25 : 34 – 40 )

في هذه الخطوة الجديدة يقترح يسوع أن نذهب في حبنا للقريب أبعد من تجاوز الاختلافات (الفروق) الدينية و العرقية و اللغوية و القرابة الدموية فهو يقترح و يُحدد بالاسم المرضى … و حتى  المساجين (دون أن يقول إذا هم مساجين لذنب أو غير ذنب) فهو هنا يعرض جميع أحوال الإنسان الحياتية لتتبناها محبة القريب و يميط اللثام عن سر و هو أننا إذا أحببنا القريب  أحببنا يسوع نفسه .

الآن بدأنا نفهم لماذا ربط يسوع بين الوصيتين عندما أجاب معلم الشريعة. ففي كل إنسان صار المسيح موجودا بشكل معين. فالكلمة عندما صار بشراً عقد معاهدة تضامن فائق الطبيعة مع جميع الجنس البشري لهذا السبب بالذات نحن نحب الله عندما نحب البشر.والإخوة البشر يصيرون أسرارا … أي العلامة المحسوسة لوجود الله في العالم .

الخطوة العظيمة الثالثة –  قمّة الوحي في وصية المحبة :-

لِنُخَلِّ جانباً الأشياء الكثيرة التي يمكن أن تقال و لنمض قدُما إلى الخطوة الحاسمة في وحي يسوع عن محبة القريب . نجد الخطوة القمة في إنجيل يوحنا في سياق العشاء الأخير عندما وهب يسوع اجمل ما عنده وأسمى ما لديه في الوحي كله ” هذه وصيّتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم” ( يوحنا 25,12 )

لم يعد المعني هنا الشخص كموضوع للمحبة ( أي المحبوب ) و إنما الشخص فاعل المحبة ( المُحِب ) و أول جديد يظهر في هذا التعبير الجديد لوصية القريب أن يسوع لا يقول فقط أنها أعظم الوصايا كما أعلن في جوابه على معلم الشريعة ، و لكن يقول أنها وصيته الجديدة بلا منازع .

كان متعارفاً في المدارس الربينية آنذاك أن يُسأل هذا السؤال: ما هو المبدأ الأعظم ؟ و كان كل معلم للشريعة في إسرائيل يعطي إجابة تكوِّن خلاصة طريقته اللاهوتية و النسكية و الروحية و الأخلاقية و بواسطة هذه المبادئ المطروحة كان يَعرف الناس إلى أي مدرسة كان ينتمي تلاميذ ذلك المعلم ، و كل واحدة من هذه الطرائق كانت غنية بالمضمون و التراث . و اكتشافات حفريات البحر الميت أظهرت للعيان كنوز واحدة من تلك المدارس اللاهوتية و الروحية في ذلك العصر .

وكان من الأهمية بمكان لتلاميذ يسوع أن يعرفوا النقطة التي تتمحور حولها حياتهم الروحية و الأدبية كلها – و يعرفوا ما هي نقطة الالتقاء في كل إنسان ما بين العقيدة الموحاة و العمل بها . أي  معرفة طريقة الحياة التي من خلالها سيُعرف تلاميذ يسوع بأتباع الوحي السماوي – وحي الله الواحد المثلث الأقانيم الذي كشفه يسوع لهم .

و ها هو يسوع  في عشائه الأخير و بعد إيصال وصيته للإثني عشر يضيف ” بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إذا أحب بعضُكم بعضاً ” ( يوحنا 13: 35  )

هذه الجملة من إنجيل يوحنا تُضيف أضواءً جديدة على مقصد يسوع من محبة القريب يريدنا أن نحب كما هو أحب . لا تكفي طيبة القلب و لا اللّطافة البشرية و لا يكفي الشعور العاطفي و لا التعاطف المصنوع من أشياء عملية تمليها الشفقة . فالحب البشري في جميع أشكاله و في كل كماله غير كاف . ينبغي أن نحب كما يحب يسوع بقلب بشري إلهي . لهذا السبب بالذات تكون هذه الوصية وصيته لأن العمل بهذا المبدأ يتطلب ارتقائنا إلى مرتبة أبناء الله – يتطلب تسامينا في حياتنا للثالوث الأقدس .

لكن وصية يسوع تستدعي أيضاً فكرة المبادلة فمحبتنا للقريب لن تصل إلى كمال أو تمام ما لم تغدو متبادلة مع تلاميذ آخرين ليسوع .

من وجهة النظر هذه تبدو لنا طبيعة الإنسان كلها معروضة بصورة جديدة . كذلك علاقتي بالقريب و حاجتي إلى القريب يبرزان بوضوح أكثر و ذلك لأني وحدي لا أقدر أن أُحقق الوصية حاملة الصفة المسيحية بلا منازع : فقط في إطار الجماعة أقدر أن أعيشها و أحققها في تمامها و كمالها . و في الوقت نفسه الذي فيه يظهر بوضوح كبير كشف وحي يسوع و عمله في طبيعة الإنسان يكشف أيضاً عن تسامي حبنا البشري . فالحب البشري يشارك في وحدة الحب الثالوثي الذي كان منذ الأزل في السماء بين الأب و الابن و الروح القدس – هذا الحب نفسه يظهر على الأرض برؤيا واضحة في المحبة الإلهية أي الكنيسة ، قال يسوع : ” بهذا يعرفون أنكم تلاميذي ” حب كهذا لا يمكن تحقيقه دون إفاضة الروح القدس على الإنسان – و لا يمكن تحقيقه دون أن يكون يسوع حاضراً بالروح في وسط تلاميذه – بذلك فقط يصبحون شهوداً لعقيدته و لحضوره في العالم …

شارك مع الأصدقاء!

Facebook
WhatsApp
Email
Twitter
Telegram