رسالة البابا بندكتوس السادس عشر “الله محبة”

الرسالة العامة

Click to view full size image
أَللهُ محبّة

للحبر الأعظم 

بندكتوس السادس عشر

إلى المطارنة 
والكهنة والشمامسة الإنجيليّين
والمكرَّسين والى جميع المؤمنين العلمانيّين
في المحبّة المسيحيّة 

LETTRE ENCYCLIQUE

DEUS CARITAS EST

DU SOUVERAIN PONTIFE

BENOÎT XVI

AUX ÉVÊQUES

AUX PRÊTRES ET AUX DIACRES

AUX PERSONNES CONSACRÉES

ET À TOUS LES FIDÈLES LAÏCS

SUR L’AMOUR CHRÉTIEN

حاضرة الفاتيكان

2005

المجمع المقدس للكنائس الشرقية

الفاتيكان

مدخل

1. «الله محبّة: فمن ثبت في المحبّة ثبت في الله وثبت اللهُ فيه» (1يو4: 16). هذه الكلمات الواردة في رسالة القديس يوحنا الأولى تعبّر بكلّ وضوح عن محور الإيمان المسيحيّ: كيف تتصوّر المسيحيّةُ الله، وبالتالي كيف ترى الإنسانَ ومسيرتَه التي تنجم عن ذلك التصوّر. علاوةً على ذلك، يقدّم لنا يوحنا، في الآية عينها، طريقة تلخّص، إذا صحّ التعبير، الوجودَ المسيحيّ: «ونحن قد عرفنا المحبّة التي لله فينا وآمنّا بها».

لقد آمنّا بمحبّة الله: بذلك يستطيع المسيحيُّ أن يعبّر عن اختيار حياته الأساسيّ. في أصل واقع الكيان المسيحيّ لا يوجد قرارٌ أخلاقيٌّ أو فكرة عظيمة، بل اللقاءُ مع حدَث، مع شخص، يُعطي الحياةَ أفقاً جديداً، وبالتالي توجّهاً حاسماً. كان يوحنا قد عبّر في إنجيله، عن هذا الحَدث بهذه الكلمات: «لقد أحبّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة» (3: 16). تلقّى الإيمانُ المسيحيّ، بمعرفته طابعَ محور المحبّة، ما كان نواةَ إيمان إسرائيل، وفي الوقت عينه أعطى تلك النواة عمقاً وبعداً جديدَين. فالإسرائيليُّ المؤمن يصلّي كلَّ يوم بكلمات سفر تثنية الاشتراع التي يعرف أنها تحوي محور وجوده: «إسمع، يا إسرائيل، إنّ الربَّ إلهنا ربٌّ واحد. فأَحبب الربَّ إلهك بكلِّ قلبك وكلِّ نفسك وكلِّ قدرتك» (6: 4-5). جمع يسوع، وصيّة محبّة الله ووصيّة محبّة القريب اللتين يحويهما سفر الأحبار: «أحبب قريبك كنفسك» (19: 18؛ را مر 12: 29-31)، جاعلاً من الاثنتين وصيّة واحدة. وإذ إن الله أحبّنا أولاً (را يو4: 10)، لم تعد المحبّة مجرّدَ وصيّةٍ فقط، بل أصبحت جواباً عن عطيّة المحبةّ التي بها يأتي الله إلى ملاقاتنا.

في عالمٍ غالباً ما يقرنُ الثأرَ إلى اسم الله تعالى، أو حتى واجبَ الحقد والعنف، نجد في رسالة المحبّة واقعاً عظيماً ومعنىً عمليّاً جدّاً. لذلك، في رسالتي الجامعة الأولى، أرغب في أن أتحدَّث عن المحبّة التي يغمرنا بها الله والتي يجب أن نبلّغها الآخرين. بذلك يُشار إلى القسمين الكبيرين في هذه الرسالة، المترابطين ارتباطاً كاملاً. فالقسم الأول يأخذ طابعاً نظريّاً، إذ إني أريد أن أحدّد فيه – في مستهلّ حبريّتي – بعض العناصر الجوهريّة حول المحبّة التي يمنحها اللهُ الإنسانَ، بطريقة سرّيّة ومجانيّة، وكذلك الرباط الجوهريّ الذي تتميّز به تلك المحبّة مع واقع الحبّ الإنسانيّ. أما القسم الثاني فلسوف يتّسم بطابع أكثر واقعيّة إذ إنه يدرس الممارسة الكنسيّة لوصيّة محبّة القريب. الموضوع في غاية الاتّساع، غير أن توسّعاً مسهباً يتجاوز الهدفَ من هذه الرسالة الجامعة. أودّ أن أركّز على بعض العناصر الأساسيّة، بحيث أثيرُ في العالم ديناميكيّةً متجدّدةً تلتزم الجوابَ الإنسانيَّ عن المحبّة الإلهيّة.

Click to view full size image

  القسم الأول

وحدة المحبّة

في الخلق وفي تاريخ الخلاص

مُعضلة كلام

2. محبّة الله لنا هي قضيّة أساسيّة للحياة وتطرح أسئلةً قاطعة حول مَن هو الله ومَن نحنُ. في هذا الموضوع نجد قبل كل شيء معضلة كلام. إن التعبير «حبّ» أصبح اليوم من أكثر الكلمات استخداماً وأيضاً من أكثرها انحطاطاً، كلمةً بتنا نعطيها معانيَ مختلفةً كلَّ الاختلاف. حتى إذا كان موضوعُ هذه الرسالة العامة يركّز على معضلة فهم المحبّة وممارستها في الكتاب المقدّس وفي تقليد الكنيسة، إلاّ أنّه لا يمكننا أن نتغافل بكل بساطة عن المعنى الذي تحويه تلك الكلمة في مختلف الثقافات وفي الكلام الحاليّ.

لنذكّرنَّ، بادىءَ ذي بدءٍ، بالمجال الواسع لمعنى كلمة «حبّ»: فهناك حبُّ الوطن، وحبُّ الإنسان لمهنته، والحبُّ بين الأصدقاء، وحبُّ العمل، والحبُّ المتبادل بين الأهل والأولاد، بين الإخوة والأقارب، ومحبّة القريب ومحبّة الله. مع كلّ هذا التنوّع في المعاني، يظهر الحبُّ بين رجل وامرأة، الذي فيه يتضامن الجسدُ والنفس بدون انفصال، وفيه يزهو للكائن البشري وعدٌ بالسعادة لا يمكن صدُّه، يظهر كالمثال الأعلى للحبّ بامتياز، تضمحلُّ أمامه، للوهلة الأولى، جميع أشكال الحبّ الأخرى. فيتبادر حينئذٍ تساؤل: في النهاية، هل تتوحَّد كلُّ أشكال الحبّ تلك؟ وعلى الرغم من كلّ تنوّع مظاهر الحبّ، هل هو في آخر الأمر وحيدٌ، أو، على العكس من ذلك، هل نستخدم فقط التعبير نفسه للدلالة على حقائقَ مختلفةٍ كلَّ الاختلاف؟ 

«غرام» (Eros) و«محبة» (Agapè) – اختلافٌ ووحدة.

3. كانت اليونان القديمة قد أعطت الحبّ المتبادل بين رجل وامرأة، الحبّ الذي لا يولد من الفكر والإرادة، بل، نوعاً ما، يُفرض على الكائن البشريّ، أعطته اسم غرام (Eros). نقول، بادىءَ ذي بدءٍ، إن العهدَ القديمَ باليونانيّة يستعمل كلمة غرام مرّتين فقط، فيما العهد الجديد لا يستعملها أبداً: من الكلمات اليونانية الثلاث المتعلّقة بالحبّ – إيروس (غرام) وفيليا (حبُّ صداقة) وأغابي (محبّة) – تفضّل أسفارُ العهد الجديد الكلمة الأخيرة التي كانت، بالأحرى، مهمَّشةً في اللغة اليونانيّة. أما في ما يخصّ حبَّ الصداقة (philia)، فلقد تبنّاه وتعمقّ فيه إنجيل يوحنا للتعبير عن العلاقة بين يسوع وتلاميذه. إن إهمال كلمة غرام (eros) والنظرة الجديدة الى الحبِّ المعبَّر عنه من خلال كلمة محبّة (agapè)، إنما يدلاّن بدون شك إلى شيء جوهريّ في جِدّة المسيحيّة في ما يتعلّق بالضبط بفهم الحبّ. في نقد المسيحيّة الذي تطوّر بعصبيّة متنامية، انطلاقاً من فلسفة الأنوار، نُظر إلى تلك الجِدّة بطريقةٍ في غاية السلبيّة. فعلى حدّ قول فريدريك نيتشه، دسّت المسيحيّةُ السُّمَّ في شراب الغرام (eros) الذي، وإن كان حقّاً لم يلفظ أنفاسه من جرّائه، إلاّ أن الأمر آل به فتحوّل إلى رذيلة[5]. كان الفيلسوف الألمانيّ يعبّر بذلك عن شعور شائع جدّاً: ألا تمرِّرُ الكنيسةُ بوصاياها ونواهيها أجملَ ما في الحياة؟ ألا تنصبُ لوحاتِ حظرٍ بالضبط حيث الفرح الذي توقّعه لنا الخالقُ يهبنا سعادةً نتذوّق بها مسبّقاً بعض الألوهيّة؟ 

4. هل الأمر حقّاً كذلك؟ هل المسيحيّة حطّمت فعلاً الغرام (eros)؟ لننظرنّ إلى العالم ما قبل المسيحيّ. رأى اليونان في الغرام، على غرار ما رأت ثقافاتٌ أخرى، قبل كلِّ شيء السُكرَ، أو تجاوزَ العقل الناجمَ عن «جنون إلهيّ» ينزع الإنسانَ من فناءِ وجوده ويسمحُ له بأن يختبر أسمى سعادة، في ذلك الكيان الذي بلبلته قدرةٌ إلهيّة. فتظهر إذ ذاك كلُّ القدرات القائمة بين السماء والأرض ثانويةً في أهميّتها: فلقد أكّد فرجيل في «الرعائيّات» (Les Bucoliques) «أن الحبّ يقهر كلَّ شيء»، وأضاف: «ونحن أيضاً ننقاد للحبّ»[6]. في الديانات، أَعرب عن ذلك شكلُ طقوس الخصب، التي تنتمي إليها الدعارة «المقدّسة» التي راجت في العديد من المعابد. احتُفل إذاً بالغرام وكأنه قدرةٌ إلهيّة، أو شركةٌ مع الألوهة. 

ناهض العهدُ القديم بأقصى شدّة هذا الشكلَ من الديانة، الأشبه بتجربةٍ جبّارة جدّاً إزاءَ الإيمان بإله واحد، وقاومه كانحرافٍ للتديّن. إلاّ أنه، بذلك، لم يرفض في شيءالغرام بحدِّ ذاته، لكنه أعلنها حرباً ضدّ تشوّهه الهدَّام، لأن تأليه الغرام الخاطىءَ الحاصلَ هنا يحرمه من كرامته، وينزع عنه إنسانيته. ففي المعبد، لا تُعاملُ المومسات، اللواتي عليهنَّ أن يوفّرنَ نشوة الألوهة، كبشرٍ بل فقط كآلاتٍ لإثارة «الجنون الإلهيّ»: إنهنّ لسنَ، في الواقع، إلاهاتٍ، بل كائنات بشريّة يُعبث بهنَّ. لذلك فالغرام النشوان وغير المنضبط ليس تصعداً، «انخطافاً» نحو الألوهيّ بل سقطةٌ وانحطاطٌ للإنسان. يتضح هكذا أن الغرام بحاجة إلى انضباط، إلى تطهيرٍ كي يمنح الإنسان لا السعادة للحظةٍ، بل نوعاً من الشعور المسبَّق بقمّة الوجود والسعادة التي يتوق إليها كياننا برمّته.

5. من هذه النظرة السريعة التي ألقينا على مفهوم الغرام في التاريخ وفي الوقت الحاضر، يتبيّن لنا بجلاءٍ مظهران، وقبلاً وجودُ بعض العلاقة بين الحبّ والألوهيّ: الحبُّ يعد باللانهائيّ، بالأبديّة – وهي حقيقة عظمى ومغايرة تماماً لواقعنا اليوميّ. لكنه تبيّن في الوقت عينه أن السبيل نحو مثل هذا الهدف لا يقوم فقط بالاستسلام لسيطرة الغريزة. فالتطهير والنضج ضروريّان؛ وهما يمرّان أيضاً بطريق التجرّد. لا نجد في ذلك رفضاً للغرام، ولا «تسميماً» له، بل شفاءً بقصد عظمته الحقّة.

ويرتبط هذا، قبل الكلّ، بتركيب الكائن البشريّ، الجسد والنفس معاً. يبلغ الإنسان حقّاً ذاته عندما تتوثّق أواصر الوحدة بين الجسد والنفس؛ وعندما ينجح ذلك التوحيدُ يُقهر حقّاً تحدّي الغرام. وإذا أراد الإنسانُ أن يرفض الجسم كأنه مجرَّدُ إرثٍ حيوانيّ، حينئذٍ يفقد كلا الروح والجسد كرامتَهما. من جهة أخرى، إذا أنكر الإنسان الروحَ واعتبر إذاً المادّة، الجسد، كحقيقة حصريّة فإنه يفقد أيضاً عظمته. كان الإبيقوريّ غاسندي يبادر ديكارت مازحاً بالتحيّة: «يا نفس!»، فيجيبه ديكارتُ قائلاً: «يا لحمُ!»3. ليس الروح فقط أو الجسد الذي يحبّ: إنه الإنسان، الشخصُ، هو الذي يحبُّ كخليقةٍ موحَّدة، مركبة من جسدٍ ونفس. فقط عندما الاثنان يذوبان حقّاً في وحدة، يبلغ الإنسان كمال ذاته. بهذه الطريقة فقط يستطيع الحبُّ – الغرام (eros) – أن ينضُجَ فيبلغ عظمته الحقّة.

ليس من النادر اليوم أن يؤخذ على مسيحيّة الماضي بأنها ناهضت الجسَدانيّة: في الواقع، كثيراً ما ظهر جنوحٌ في هذا النحو. لكن طريقة إعلاءِ الجسد، التي نشهدها اليوم، خدّاعة. إن الغرام الذي انحدر ببساطة إلى درك «الجنس» أصبح سلعةً، ومجرّد «شيء» يمكن شراؤه وبيعُه. والأكثر من ذلك، إن الإنسان نفسه أصبح سلعة. في الحقيقة ليس هذا بالطبع الجوابَ الإيجابيَّ العظيم من الإنسان لجسده. بل على العكس من ذلك، يعتبر الإنسان الآن جسدَه والجنسيّة (sexualité) كأنهما الجزءُ الماديُّ فقط من ذاته، يستخدمهما ويستغلّهما بطريقة مدروسة. جزءٌ، على كلِّ حال، لا يعتبره فسحةً من حرّيته، بل شيئاً يحاول هو نفسه، على طريقته، بأن يجعله في آنٍ معاً مسليًاً وغيرَ مؤذٍ. في الحقيقة، إنّا نواجه انحطاطاً لجسد الإنسان الذي نُزع كليّاً من حرّية كياننا، ولم يعد تعبيراً حيّاً لكامل كياننا، بل وكأنه حُصر فقط في الإطار البيولوجيّ المحض. إن إعلاءَ شأن الجسد الظاهر يمكنه أن يتحوّل سريعاً إلى حقد نحو الجسَدانيّة. وعلى العكس من ذلك، إن الإيمان المسيحيّ اعتبر الإنسانَ على الدوام ككائن واحدٍ ومثنّى، يتمازج فيه الروحُ والمادّة ويختبر كلاهما معاً سموّاً جديداً. نعم، إن الحبَّ – الغرام – يريد أن يرفعنا «في انخطاف» نحو الألوهيّة، أن يقتادنا إلى ما أبعدَ من ذواتنا، فلذلك يتطلّب هذا بالضبط طريقاً مصعِّداً، طريقَ تجرّدٍ وتطهيرٍ وشفاء.

6. كيف يمكننا أن نتخيّل حسيّاً ذلك الطريق، طريق الصعود والتطهير؟ كيف يجب أن يُعاش الحبُّ كي يتحقّق بالكمال وعدُه البشريّ والإلهيّ. يمكننا أن نجد إشارة أولى مهمّة في نشيد الأناشيد، أحد أسفار العهد القديم الذي يعرفه جيّداً الصوفيّون. وفقاً للتفسير السائد اليوم، إن الأناشيد التي يتضمنها هذا السفر هي بالأساس أناشيدُ حبّ، وُضعت لربّما لعيد أعراسٍ يهوديّة كي تُشيدَ بالحبّ الزوجيّ. في هذا الإطار، إن مجرّد وجود كلمتين مختلفتين للحديث عن «الحبّ»، في هذا الكتاب، لمفيدٌ جدّاً. لدينا أولاً كلمة «دوديم» ِ(dodim)، بصيغة الجمع للتعبير عن الحبّ الذي ما زال حائراً، في وضع بحثٍ مبهم متردّد. ثم استعيض عن هذه الكلمة، في ما بعد، بكلمة «أحبَّ» (ahabà) التي عبّرت عنها، في الترجمة اليونانيّة للعهد القديم، كلمة «محبّة» (agapè) ذاتُ النغم عينه، والتي، كما رأينا، أصبحت التعبير المميّز للمفهوم البيبليّ للحبّ. بالتعارض مع الحبّ المتردّد الباحث الحائر، تعبّر هذه الكلمة عن اختبار الحبّ الذي ما يعتّم أن يصبح اكتشافاً حقيقيّاً للآخر، يتجاوز إذاً الطابعَ الأنانيَّ السائدَ بوضوح في السابق. يصبح الحبُّ الآن اهتماماً بالآخر ومن أجل الآخر. لا يبحث من بعدُ عن ذاته – الغوص في نشوة السعادة – بل على العكس من ذلك، إنه يبحث عن خير الحبيب: فيصبح تجردّاً، واستعداداً للتضحية، وحتى إنه يبحث عنها.

يشكّل ذلك جزءاً من تطوّرات الحبّ نحو درجاتٍ أسمى، نحو تطهيراتٍ عميقة للحبِّ الباحثِ الآن عن طابعه النهائيّ، وذلك بمعنىً مزدوج: معنى الطابع الحصريّ – «هذا الشخص وحسبُ» – ، وبمعنى الواحد «إلى الأبد». يحوي الحبُّ كمالَ الوجود في كلِّ أبعاده، بما فيه بعدُ الزمن. ولا يمكنه أن يكون غير ذلك، لأن وعدَه يهدف إلى ما هو نهائيّ. الحبُّ يهدف إلى الأبديّة. نعم، الحبُّ «انخطاف»، لكنه انخطاف لا بمعنى لحظة نشوة، بل انخطافٌ بمعنى طريق، بمعنى خروج دائمٍ ينطلق من الأنا المغلق على ذاته إلى تحرّره بعطاءِ الذات، وهكذا بالتحديد نحو اكتشاف الذات، والأكثر من ذلك نحو اكتشاف الله: «من طلب أن يخلّص نفسه يُهلكها؛ ومن أهلكها يحفظها» (لو 17: 23)، قال يسوع – وهذا يمثّل تأكيداً من تأكيداته الواردة في الأناجيل بعدّة أشكال (را متى 10: 39؛ 16: 25؛ مر 8: 35؛ لو 9: 24؛ يو 12: 25). يصف يسوعُ هكذا طريقه الشخصيّ، الذي يقوده بالصليب إلى القيامة؛ إنه طريق حبّة الحنطة الواقعة في الأرض فتموت وتعطي ثمة ثمراً وافراً. لكنّه يصف أيضاً بتلك الكلمات جوهرَ الحبِّ والكيان البشريّ عموماً، انطلاقاً من محور ذبيحته الشخصية ومحور الحبّ الذي يبلغ فيه إلى الكمال.

7. إن أفكارنا حول جوهر الحبّ، وهي في الأساس بالأحرى فلسفيّة، قادتنا الآن، بديناميّة داخليّة، حتى الإيمان البيبليّ. في نقطة الانطلاق، طُرح السؤال لنعرفَ هل معاني كلمة حبّ المختلفة، حتى المتناقضة أحياناً، لم تكن تتضمّن بعض الوحدة العميقة، أو هل يجب، على العكس من ذلك، أن تبقى مستقلّة، يجاور الواحد منهاُ الآخر. إلاّ أنه، قبل كل شيء، طُرح السؤال لنعرف هل الرسالة عن الحبّ، التي أعلنها لنا الكتابُ المقدَّس وتقليدُ الكنيسة، لها أيّ علاقة مع الاختبار البشريّ المشترك للحبّ، أو هل بالأحرى تناقضه. في هذا الشأن، واجهنا كلمتين أساسيتين: «إيروس» (eros) كتعبير يدلّ على الحبّ «العالميّ»، و«أغابي» (agapè) كتعبير يدلّ على الحب المرتكز على الإيمان والمصوغ منه. وغالباً أيضاً ما يُناقَض هذان المفهومان كحبٍّ «سلطويّ» وحبٍّ «متنازل». وهناك تصنيفاتٌ أخرى مشابهة، من مثل التمييز بين حبٍّ شهوانيّ متملك وحبٍّ معطاء·، يُضَاف إليهما أحياناً أيضاً الحبّ الذي لا يتوق إلاّ إلى مصلحته.

في الجدَل الفلسفيّ واللاهوتيّ، غالباً ما نحَت تلك التمييزات منحى التطرّف فناقض بعضها بعضاً: الحبُّ المتنازل، المعطاء، وبالضبط «الأغابي» (المحبّة) يشكّل الحبَّ النموذجيَّ المسيحيّ؛ وبالنقيض، الثقافة غيرُ المسيحيّة، وبالأخصّ الثقافة اليونانيّة، تتميّز بالحبّ السلطويّ، المتملّك، الشهوانيّ، أي بـ«الإيروس» (الغرام). وإذا ما أردنا أن نذهب بذلك النقيض إلى أقصى حدّ، يتبيّن أن جوهر المسيحيّة يُفصل عن العلاقات الحيويّة والأساسيّة للوجود البشريّ ويشكّل عالماً بحدّ ذاته، يُمكن لربما اعتبارُه عالماً رائعاً، لكنه منفصلٌ كلَّ الانفصال عن تشعّب الوجود البشريّ. في الواقع «الإيروس» و«الأغابي» – الحبُّ السلطويّ والحبّ المتنازل – لا يضطرّان أبداً إلى أن يفرَّق تماماً واحدهما عن الآخر. وكلّما يجد هذان الشكلان من الحبّ، حتى في ابعادٍ مختلفة، وحدَتهما العادلة في الواقع الوحيد للحبّ، كلّما توفّرت عموماً طبيعةُ الحبّ الحقّة. حتى إذا كان «الإيروس» في الأصل شهوانيّاً، سلطويّاً – فيه استهواءٌ للوعد العظيم بالسعادة – فهو عندما يقترب بعدئذٍ من الآخر، تتقلّص على الدوام الأسئلة عن ذاته، ويبالغ في نشدان سعادة الآخر، ويبدي اهتماماً أعظم دائماً بالآخر، ويعطي ذاته ويرغب في «أن يكون» للآخر. وهكذا تنفذ إليه لحظة الأغابي؛ وإلاّ يهبط الإيروس ويفقد أيضاً طبيعته ذاتها. من جهة أخرى، لا يستطيع الإنسان كذلك أن يحيا حصريّاً في الحبّ المعطاء، المتنازل. لا يستطيع دائماً العطاءَ فقط، بل يجب أيضاً أن يتقبّل. ومن يريد أن يهب الحبّ، عليه أيضاً أن يتقبّله كهبة. يمكن الإنسان حقّاً، كما يقول لنا السيّد، أن يصبح ينبوعاً تجري من جوفه أنهارُ ماءٍ حيٍّ (را يو 7: 37-38). لكن، كي يصبح الإنسانُ مثل هذا الينبوع، عليه أن يعود ويشرب دائماً من الينبوع الأول والأصليّ الذي هو يسوعُ المسيح، من القلب المطعون الذي منه فاض حبُّ الله (را يو 19: 34).

في رواية سلّم يعقوب رأى الآباء تعبيراً رمزيّاً، بطرقٍ مختلفة، عن الرباط المتلازم بين الصعود والنزول، بين الإيروس الباحث عن الله والأغابي التي تنقل الهبة المقبولة. ورد، في هذا النصّ البيبليّ، أنَّ أبا الآباء يعقوب رأى في حلم، وهو مُسندٌ إلى حجرٍ رأسَه، سلّماً يلامس السماء، وملائكةَ الله يصعدون وينزلون عليه (را تك 28: 12؛ يو1: 51). إن التفسير الذي يعطيه البابا غريغوريوس الكبير عن هذه الرؤية في «القاعدة الراعويّة» مؤثرٌ للغاية. فيقول إن الراعي الصالح يجب أن يتأصّل في التأمل. بذلك فقط يستطيع أن يتقبّل حاجاتِ الآخرين في قلبه، بحيث تصبح حاجاتهِ: «ينقل بأحشاء محبته الأبويّة إلى ذاته ضعفَ الآخرين»4. في هذا الإطار، يعود القديس غريغوريوس إلى القديس بولس الذي خُطف إلى السماء، إلى أعماق أعظم أسرار الله، والذي استطاع، انطلاقاً من ذلك، بعد رجوعه من السماء، أن يكون كلاًّ للكل (را 2 كو 12: 2-4؛ 1 كو 9: 22). من جهة أخرى، يعطي القديس أيضاً مثَل موسى الذي كان يدخل على الدوام الخباءَ المقدس، ليحاور فيه الله، فيستطيع حينئذٍ، من بعد الله، أن يكون في تصرّف شعبه. «في الداخل (في الخباء)، كان التأمل يجذبه إلى الأعالي، وفي الخارج [خارج الخباء]، كان يحمل ثقل المتألمين»5.

8. وجدنا في ذلك جواباً أول، مع أنه عموميّ، عن السؤالين السابقين: في الواقع، «الحبُّ» حقيقة واحدة، لكن مع أبعاد مختلفة؛ ويمكن أن يظهر بعدٌ أو آخر، كلٌّ بدوره، بطريقة أهمّ. وحيثما ينفصل البعدان تماماً الواحدُ عن الآخر، يظهر تشويهٌ أو، على كلّ حال، شكلٌ ينتقص الحبّ. وباختصار، رأينا أيضاً أن الإيمان البيبليّ لا يبني عالماً موازياً أو عالماً مضادّاً للظاهرة البشريّة الأصليّة التي هي الحبّ، بل يتقبّل الإنسانَ كلَّه، متدخّلاً في نشدانه الحبَّ كي ينقِّيَه، مشرِّعاً له، في الوقت عينه، أبعاداً جديدة. هذه الجدَّة في الإيمان البيبليّ تظهر بخاصّة في نقطتين جديرتين بالإشارة إليهما: صورة الله وصورة الإنسان.

جِدّة الإيمان البيبليّ

9. المقصود أولاً هو صورة الله الجديدة. في الثقافات المحيطة بعالم الكتاب المقدس، ما زالت، في النهاية، صورة الله أو الآلهة غيرَ واضحة، وبحدِّ ذاتها متناقضة. في مسيرة الإيمان البيبليّ، على العكس من ذلك، يلاحَظُ وضوحٌ أعظمُ وتوحيدٌ أكبرُ في ما تردّده صلاة إسرائيل الأساسيّة (شِمَع) بهذه الكلمات: «إسمع، يا إسرائيل؛ إن الربَّ إلهنا هو ربٌّ واحد» (تث 6: 4). يوجد إلهٌ واحد، خالقُ السماءِ والأرض، وهو، إذاً أيضاً، إلهُ جميع البشر. عنصران فريدان في هذا التأكيد: الواقع أنَّ كلَّ الآلهة الأخرى ليست، بالحقيقة، الله، وأن كلَّ الواقع الذي نعيش فيه يعود إلى الله، وأنه هو خالقُه. بالطبع، إن فكرة الخَلق موجودة أيضاً في مكان آخر، لكن هنا فقط يظهر بكلِّ جلاء أن الله ليس أيَّ إله، بل هو اللهُ الوحيدُ الحقيقيُّ نفسُه، صانعُ الحقيقة بأسرها، التي تنشأُ من قدرة كلمته الخلاّقة. هذا يعني أن خليقته عزيزةٌ على قلبه، أنه هو نفسه قد أرادها، وأنها هي «صنعه». وهكذا يظهر العنصر الثاني المهمّ: هذا الله يحبّ الإنسان. إن القدرة الإلهيّة التي سعى أرسطو، في قمة الفلسفة اليونانيّة، للبلوغ إليها بالتفكير، هي، بالحقيقة لكلّ كائن، موضوعُ رغبة وحبّ – بصفتها حقيقةً محبوبة، هذه الألوهة تحرّك العالم6-، لكن لا تحتاج هي نفسُها إلى شيء ولا تحِبُّ؛ إنها تحَبُّ فقط. على العكس من ذلك، الله الوحيد الذي يؤمن به إسرائيل يحبُّ شخصيّاً. وعلاوة على ذلك، إن حبَّه هو حبُّ اختيار: فمن بين جميع الشعوب، اختار الله إسرائيلَ وأحبّه، قاصداً مع ذلك بأن يشفي البشريّة جمعاء، من خلال ذلك الحبّ. إنه يحبّ، وحبُّه يمكن، بدون شك، أن يُعتبر غراماً (إيروس)، وفي الوقت عينه وكليّاً محبّة (أغابي)7

وصف النبيّان هوشع وبالأخصّ حزقيال شغف الله هذا بشعبه بصوَر غراميّة جريئة. فتُصوَّر علاقة الله مع إسرائيل باستعاراتٍ من الخطوبة والزواج؛ وبالتالي، فعبادة الأصنام زنىً ودعارة. يُقصد حسيّاً من ذلك، كما رأينا، طقوسُ الخصوبة وعبثُها الغراميّ، لكن في الوقت عينه، توصف أيضاً، بذلك، علامةُ الأمانة بين إسرائيل وإلهه. تاريخ محبّة الله مع إسرائيل تقوم في العمق على أنه أعطاه التوراة، وأنه، في الواقع، يفتح لإسرائيل أعينهم على طبيعة الإنسان الحقيقية، ويرشدُهم السبيلَ إلى أَنسنة حقيقيّة. يقوم هذا التاريخ على أنَّ الإنسان، عندما يحيا أميناً لله الواحد، يختبر هو بذاته أن الله يحبّه ويكتشف الفرحَ في الحقيقة، في العدالة، الفرحَ في الله الذي يصبح سعادتَه الجوهريّة: «مَن لي في السماء، ومعك على الأرض لا أهوى شيئاً؟… ولي أنا يطيبُ التقرّبُ إلى الله» (مز 72 [73]: 25، 28).

10. غرامُ الله بالإنسان، كما رأينا، هو في الوقت عينه، محبّة كاملة، ليس فقط لأنه يُمنح كليّاً مجاناً، بدون أيّ استحقاق مسبَّق، بل أيضاً لأنه حبٌّ غافر. إنّ النبيّ هوشع هو الذي يظهر لنا، بالأخصّ، بُعد المحبّة (أغابي) في حبّ الله للإنسان، الذي يفوق كثيراً ظاهر المجّانيّة. اقترف إسرائيل «الزنى»، نقض العهد؛ على الله أن يحاكمه ويرذله. هنا، بالضبط، يظهر مع ذلك أن الله هو الله وليس إنساناً: «كيف أهجركَ، يا إفرائيم، وكيف أسلمكَ، يا إسرائيل؟… قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت أحشائي. لا أُطلق حدَّة غضبي، ولا أعود إلى تدمير إسرائيل، لأني أنا الله لا إنسان: في وسْطكم أنا الله القدّوس» (هو 11: 8-9). إن حبّ الله الشغوف بشعبه – بالإنسان – هو في الوقت عينه حبٌّ غافر. إنه عظيمٌ إلى حدِّ أنه يقلبُ الله على ذاته، يقلبُ حبَّه على عدله. يرى المسيحيُّ في ذلك، بشكل مستتر، بزوغَ سرِّ الصليب: لقد أحبّ الله هكذا الإنسان حتى إنه، إذ صار هو نفسه إنساناً، تبع الإنسان حتى الموت، وبهذه الطريقة صالح العدلَ والحبّ.

إن المظهر الفلسفيّ والتاريخيّ والدينيّ الذي يجدر بنا أن نستخلصه من رؤية الكتاب المقدّس تلك، يكمن في أنّا، من جهة، نواجه صورةً لله متافيزيقيّة حصراً: الله هو، في المطلق، المصدر الأصلي لكلّ كائن؛ لكن هذا المبدأ الخالقَ كلَّ الأشياء – الكلمة، العقل الأوليّ – هو، من جهة أخرى، شخص يحبّ بكلِّ شغفٍ الحبَّ الحقيقيّ. بهذه الطريقة، يُرفع الإيروس إلى أسمى شرف، لكن، في الوقت عينه، يطهَّر هكذا حتى إنه ينصهر مع المحبّة (أغابي). انطلاقاً من هنا، يمكن هكذا أن نفهم أن سفر نشيد الأناشيد، الذي أُدرجَ في قانون الكتاب المقدّس، قد فُسِّر بسرعةٍ فائقةٍ وكأنه أناشيدُ حبٍّ تصف، في النهاية، علاقة الله مع الإنسان، وعلاقة الإنسان مع الله. بهذه الطريقة أصبحَ نشيد الأناشيد، في الأدب المسيحيّ كما في الأدب اليهوديّ، مصدرَ معرفةٍ واختبار صوفيّ، يعبَّر فيه عن جوهر الإيمان البيبليّ؛ نعم، يوجد توحيدٌ للإنسان مع الله – وهذا كان حُلم الإنسان قديماً. لكن هذا التوحيد لا يعني انصهار الواحد في الآخر، ولا الذوبان في محيط الألوهة المجهول؛ هي وحدة تخلق الحبَّ الذي فيه يبقى الاثنان، الله والإنسان، على ما هما عليه، ومع ذلك يصبحان كليّاً واحداً: «من يقترنُ بالربّ يكون معه روحاً واحداً»، يقول القديس بولس (1 كو 6: 17).

11. جديدُ الإيمان البيبليّ الأول يقوم، كما رأينا، على صورة الله؛ والثاني، المرتبط به ارتباطاً جوهريّاً، نجده في صورة الإنسان. تتحدَّث الرواية البيبليّة للخلق عن عزلة الإنسان الأول، آدم، الذي أراد الله أن يضع إلى جانبه معيناً. لا خليقة، من بين جميع الخلائق، يمكنها أن تكون للإنسان المعينَ المحتاجَ إليه، مع أنه سمّى بأسمائها جميعَ حيوانات الحقول وجميعَ الطيور، وأدرجها في محيط حياته. حينئذٍ من ضلع من الإنسان جبل الله المرأة. فوجد آدمُ بعدَ اليوم المعين الذي يلزمه: «هذه المرَّة، هي عظمٌ من عظامي ولحم من لحمي» (تك 2: 23). يمكن أن نرى، ما وراء هذه الرواية، نظريّات تَظهرُ مثلاً أيضاً في الأسطورة التي ذكرها أفلاطون، القائلة إن الإنسان كان، في البدء، كرويّ الشكل، لأنه كاملٌ ومكتفٍ ذاتيّاً. لكن زفس، ليقتصَّ من كبريائه، قطعه اثنين، بحيث إن نصفه يبحث منذئذٍ على الدوام عن نصفه الآخر، ويسير إليه، كي يستعيد كماله8. في الرواية البيبليّة، لا حديثَ عن قصاص؛ مع ذلك، إن الإنسان، في تركيبه، هو، نوعاً ما، غيرُ كامل، ويبحث في الآخر عن الجزء الناقص لاكتماله، أعني أن الفكرة بأنه لا يمكن أن يصبح «كاملاً» إلاّ بالشركة مع الجنس الآخر، حاضرة بدون شك. وتنتهي الرواية البيبليّة بنبؤة تعني آدم: «لذلك يترك الرجلُ أباه وأمه ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما جسداً واحداً» (تك2: 24).

لدينا هنا مظهران مهمّان: كأن الإيروس منغرسٌ في طبيعة الإنسان نفسها؛ آدمُ في بحثٍ و«يترك أباه وأمّه» كي يلاقي امرأته؛ وبلقائهما كلاهما معاً فقط يمثّلان البشريّة جمعاء، ويصبحان «جسداً واحداً». ولا يقلّ المظهر الثاني أهميّة: بحسب توجيهٍ يعود أصله إلى الخليقة، يقود الإيروس الإنسان إلى الزواج، إلى وثاقٍ يتميّز بالوحدانيّة والنهائيّة؛ هكذا، وهكذا فقط، يتحقّق مصيره العميق. صورةُ الله، إله التوحيد، يقابلها الزواج الأُحاديُّ الزوج. ويصبح الزواج المرتكز على حبٍّ حصريّ ونهائيّ صورةً (إيقونة) لعلاقة الله مع شعبه، والعكسُ بالعكس: الطريقة التي بها يحبُّ الله تصبح مقياس الحبّ البشريّ. هذا الرباط الوثيق القربى بين الإيروس والزواج في الكتاب المقدس لا مماثلَ عمليّاً له خارج الأدب البيبليّ.

يسوع المسيح – حبُّ الله المتجسّد

12. حتى إذا كنّا حتى الآن قد تحدّثنا عن العهد القديم، إلاّ أن تداخلَ العهدين العميق، ككتابٍ واحدٍ للإيمان المسيحيّ، قد ظهر جليّاً. إن جِدّة العهد الجديد الحقيقيّة لا تقوم على أفكار جديدة، بل على صورة المسيح نفسها التي تعطي المفاهيم لحماً ودماً – واقعيّة خارقة. فمنذ العهد القديم، لم تكمن الجدَّة البيبليّة فقط في مفاهيم، بل في عمل الله غيرِ المتوقَّع، والخارق في بعض الوجوه. عملُ الله هذا يكتسب الآن شكلاً مأسويّاً، باعتبار أنَّ الله نفسه، في يسوع المسيح يبحث عن «الخروف الضالّ»، الإنسانيّة المعذَّبة والضائعة. عندما يتحدّث يسوعُ في أمثاله عن الراعي الذي يذهب بحثاً عن الخروف الضالّ، وعن المرأة الباحثة عن الدرهم، وعن الأب الذي يخرج لملاقاة الابن الضالّ ويقبّله، المقصود هنا ليس كلاماً فقط، بل شرحٌ لكيانه ذاته ولعمله. بموته على الصليب تمّ انقلاب الله على ذاته، كي يُنهض الإنسان ويخلّصه – ذلك هو الحبُّ في شكله الأكثر تأصلاً. النظرُ المتّجه نحو جنب المسيح المطعون، الذي يتحدّث عنه يوحنا (را 19: 37)، يحوي نقطة انطلاق هذه الرسالة الجامعة: «الله محبّة» (1يو 4: 8). هذه الحقيقة يمكن تأمّلها هناك. انطلاقاً من هنالك، يجب الآن أن نحدّد ما هو الحبّ. انطلاقاً من تلك النظرة يجد المسيحيُّ الطريقَ كي يحيا ويحبّ.

13. أعطى يسوعُ لفعل التقدمة هذا، حضوراً دائماً بتأسيسه الإفخارستيّا، خلال العشاءِ الأخير. استبق موتَه وقيامتَه بتقديمه ذاته، في تلك الساعة، لتلاميذه، فأعطاهم في الخبز والخمر، جسدَه ودَمه، كمنٍّ جديد (را يو6: 31-33). إذا كان العالم القديم قد توهّم أنّ طعامَ الإنسان الحقيقيّ، في باطن الأمر – الطعام الذي به يحيا كإنسانٍ – هو اللوغس (الكلمة) الحكمة الأزليّة، فهذا اللوغُس قد أصبح حقّاً الآن غذاءً لنا، كحبّ. تجتذبنا الإفخارستيّا إلى فعل تقدمة يسوع. إنّا لا نقبل فقط الكلمة (اللوغس) المتجسّد بطريقة راكدة ثابتة، لكنّا ننجذب في ديناميكيّة تقدمته. إن صورة القربان بين الله وإسرائيل تصبح واقعاً بطريقة لا يمكن حقّاً تصوّرُها: وما كان يقوم على وقوفٍ في حضرة الله يصبح الآن، من خلال المشاركة في تقدمة يسوع، المشاركة في جسده وفي دمه، يصبح اتحاداً. إن صوفيّة السرّ، المرتكزة على تنازل الله نحونا، تتمتّع ببعدٍ آخرَ كليّاً وتقود إلى ما هو أسمى ممّا يمكن أن يقود إليه أيّ تسامٍ صوفيّ.

14. يجب التنبّه الآن إلى مظهر آخر: «صوفيّة» السر تتّسم بطابع اجتماعيّ لأني، في المناولة السرّيّة، أتّحد بالربّ، كمثل جميع الأشخاص الذين يتناولون: «فبما أن الخبز واحد، فنحن، الكثيرين، جسدٌ واحد؛ لأنّا جميعاً نشترك في الخبز الواحد»، يقول القديس بولس (1كو10: 17). الاتحاد مع المسيح هو في الوقت عينه اتّحادٌ مع جميع الذين يقدِّم لهم ذاته. لا يمكن أن آخذ المسيح لي وحدي؛ لا يمكنني أن أكون من خاصّته إلاّ بالاتحاد مع جميع الذين أصبحوا، أو سيصبحون من أخصائه. المناولة تنشلني خارجاً عن ذاتي لتقودني نحوه، وفي الوقت عينه، نحو الوحدة مع جميع المسيحيّين. نصبح «جسداً واحداً»، منصهرين معاً في وجود واحد. محبّة الله ومحبّة القريب ملتحمتان الآن كلَّ الالتحام: الله المتجسّد يجذبنا جميعاً إليه. إنطلاقاً من هنا، نفهم الآن كيف أن أغابي أصبحت حينئذٍ أيضاً اسماً مرادفاً للإفخارستيّا: ففيها تأتي محبّة الله إلينا جسديّاً كي تواصل عملها فينا ومن خلالنا. إنطلاقاً فقط من هذا الأساس المسيحانيّ والسرّي يمكننا أن نفهمَ فهماً صحيحاً تعليمَ يسوع عن الحبّ. إن المرورَ الذي ينقل به من الشريعة والأنبياء إلى وصيّة المحبّة المزدوجة، محبّة الله ومحبّة القريب، وكذلك الواقعُ أن كلَّ وجود الإيمان ينجم عن طابع هذه الوصيّة المحوريّ، هذا كلّه ليس فقط خُلُقاً يُمكن أن يوجد، بطريقة ذاتيّة إلى جانب الإيمان بالمسيح وإعادة تأوينه في السرّ: الإيمان والعبادة والخلُق يتداخل بعضها بعضاً، كواقع وحيد يجد شكله في اللقاء مع محبّة الله. هنا، يسقط كليّاً التناقضُ العاديُّ بين العبادة والأخلاقيّة. في «العبادة» نفسها، في الشركة الإفخارستيّة، يُحتوى الواقع بأن يُحَبَّ الإنسان وبأن يُحِبَّ، بدوره، الآخرين. الإفخارستيّا التي لا تُتَرجَم إلى ممارسة فعليّة للحبّ هي بحدّ ذاتها مبتورة. والعكسُ بالعكس، – كما سنُضطرُّ أيضاً إلى دراسة ذلك بالتفصيل – «وصيّةُ» المحبّة لا تصبح ممكنة إلاّ لأنها ليست فقط إلزاماً: الحبُّ يُمكن أن «يؤمر به» لأنه مُنحَ أولاً.

15. إنطلاقاً من هذا المبدإ، يجب أن تُفهم أمثال يسوع الكبرى. من موقع العذاب، يتوسّل الرجلُ الغنيُّ (لو 16: 19-31) كي يُخبَر إخوته بما يحلّ بالذي، في وقاحته، أهمل الفقير المحتاج. يتلقّى يسوعُ، إذا جاز التعبير، هذا النداءَ إلى المساعدة ويردّده كي يحذّرنا، كي يعيدنا إلى سويّ السبيل. مثَل السامريّ الرحيم (لو10: 25-37) يسمح بالأخصّ أن نقوم بتوضيحين. فيما كان مفهوم «القريب» ينحصر حتى ذلك الوقت أساساً بأبناء الأمة الواحدة وبالغرباء المقيمين على أرض إسرائيل، إذاً إلى جماعة بلدٍ أو شعبٍ متضامنة، هذا التحديد أُلغي بعدَ اليوم. من يحتاج إليّ وبوسعي أن أساعده، ذلك هو قريبي. عُمّم مفهوم القريب، ويبقى مع ذلك فعليّاً. على الرغم من أنه شمل جميع البشر، فهو لا يقتصر على التعبير عن حبٍّ للجنس البشريّ مبهم، لكنه يتطلّب التزاماً حسيّاً في المكان والزمان. هنا تكمن مهمّة الكنيسة في أن تفسّر دائماً ومجدَّداً ما يربط بين التباعد والتقارب في حياة أعضائها العمليّة. أخيراً، من الجدير أن نذكّر، بالأخص، هنا بمثَل الدينونة العامة العظيم (متى 25: 31-46)، حيث المحبّة تصبح المقياسَ للقرار النهائيّ بشأن قيمة الحياة الإنسانيّة أو عدم قيمتها. فيسوع يتماهى مع الذين هم في حاجة: الجياع والعطاش والغرباء والعراة والمرضى والمحبوسين. «إن كلَّ ما صنعتموه إلى واحد من إخوتي هؤلاء، إلى واحدٍ من الأصاغر، فإليّ قد صنعتموه» (متى 25: 40). محبّةُ الله ومحبةُ القريب ينصهر واحدُهما في الآخر: في أصغر الأصاغر نلاقي يسوعَ نفسَه، وفي يسوعَ نلاقي الله.

محبّة الله ومحبّة القريب

16. بعد أن تأملنا في جوهر الحبّ وفي معناه في الإيمان البيبليّ، يبقى سؤالٌ مزدوج يعني تصرّفنا: هل يمكن حقّاً أن نحبَّ الله، فيما لا نراه؟ ثمَّ: الحبُّ، هل يمكن أن يؤمَر به؟ إزاء وصيّة الحبّ المزدوجة، يمكن أن نردَّ باعتراضين اثنين يترجّع صداهما في هذه الأسئلة: الله لم يرَه أحدٌ قطّ – فكيف يمكننا أن نحبّه؟ من جهة ثانية، الحبُّ لا يمكن أن يؤمر به؛ في النهاية، هذا شعورٌ يمكن أن يكون أو لا يكون، لكنه لا يمكن أن تولّده الإرادة. يظهر وكأن الكتاب يؤكد الاعتراض الأول عندما يقول: «إن قال أحدٌ: “إني أحبُّ الله”، وهو يبغض أخاه، فهو كاذب. فمن لا يحبَّ أخاه وهو يراه، فلا يستطيع أن يحبَّ الله وهو لا يراه» (1يو 4: 20). هذا النصُّ لا يُقصي البتّة حبَّ الله وكأنه شيءٌ غيرُ ممكن؛ على العكس من ذلك، هذا الحبُّ لازمٌ صراحةً، على ما يُستخلص من الإطار العام لرسالة يوحنا الأولى التي ذكرنا للتوّ. إنه يشدِّد على الرباط الوثيق القائم بين محبّة الله ومحبّة القريب. كلاهما يفترض واحدهما الآخر، بشدّة، بحيث إن تأكيد المحبّة لله يصبح كذباً إذا ما أغلق الإنسانُ ذاته عن أخيه، أو، أكثرَ أيضاً، إذا ما أبغضه. يجب بالأحرى تفسيرُ الآية اليوحناويّة بمعنى أن محبّة القريب هي ايضاً سبيلٌ إلى التقاءِ الله، بحيث إن تجاهل الإنسان لقريبه يجعله جاهلاً لله أيضاً.

17. أجل، لم يرَ أحدٌ اللهَ كما هو في ذاته. إلاّ أنّ الله ليس خفيّاً كليّاً، ولم يظلَّ بالنسبة إلينا لا يُدنى البتّةَ منه. فالله أحبَّنا هو أولاً، تقول رسالة يوحنا التي ذكرنا للتوّ (را 4: 10)، وحبُّ الله هذا ظهر ما بيننا، ورأيناه لأنه «أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لنحيا به» (1يو 4: 9). الله صار مرئيّاً: في يسوعَ يمكن أن نرى الآب (را يو 14: 9). في الواقع، يصير الله مرئيّاً بطرقٍ مختلفة. في قصّة الحبّ التي يرويها لنا الكتاب المقدّس، يأتي إلى ملاقاتنا، يسعى لامتلاكنا – حتى العشاء الأخير، حتى القلب المطعون على الصليب، حتى ظهورات القائم من بين الأموات والأعمال العظيمة التي من خلالها قاد مسيرة الكنيسة الناشئة، بواسطة عمل الرسل. وكذلك، من بعدُ، في تاريخ الكنيسة، لم  يغب الربُّ أبداً: إنه يأتي دائماً ومجدَّداً إلى ملاقاتنا – بواسطة أشخاص يظهر من خلالهم، وكذلك بكلمته، وفي الأسرار وبخاصة الإفخارستيّا. في ليترجيّا الكنيسة، في صلاتها، في جماعة المؤمنين الحيّة، نختبر حبَّ الله، نستشعر حضوره، ونتعلّم أيضاً بتلك الطريقة أن نتعرّف إليه في حياتنا اليوميّة. أحبّنا هو أولاً، وما زال يحبّنا هو أولاً؛ لذلك نحن أيضاً يمكننا أن نجاوب بالحبّ. لا يفرض الله علينا شعوراً لا يمكن أن نثيره في ذواتنا. إنه يحبّنا ويُظهر لنا حبّه ويمكننا أن نختبره، وانطلاقاً من «حبّ الله الأول» هذا، يمكن، جواباً عن ذلك، أن يتفجّر الحبُّ أيضاً فينا.

في تطوير هذا اللقاء، يظهر بجلاءٍ أن الحبَّ ليس فقط عاطفة. فالعواطف تأتي وتذهب. يمكن العاطفة أن تكون شرارةً رائعةً أوليّة، لكنها ليست كمالَ الحبّ. في البدء، تحدّثنا عن سير التطهيرات والنضوج، التي من خلالها، يصبح الإيروس ذاتَه كليّاً، يصبح حبّاً بكل معنى الكلمة. فمن خصائص نضج الحبّ أن يُلزم جميع طاقات الإنسان، وأن يضمّ، إذا جاز التعبير، الإنسانَ في كماله. إن لقاءَ تعابير حبِّ الله المرئية يمكن أن تثير فينا شعوراً بالفرح، يتولّد من الاختبار بأنّا محبوبون. لكن ذلك اللقاءَ يتطلّب أيضاً إرادتنا وعقلنا. إن الاعتراف بالله الحيّ سبيلٌ نحو الحبّ، وتجاوبُ إرادتنا مع إرادته يوحّد العقل والإرادة والعاطفة في العمل المكمِّل الحبَّ. وتبقى هذا المسيرة، مع ذلك، دائمة التحرّك: فالحبُّ غيرُ «ناجزٍ» أبداً وغيرُ كامل؛ ويتبدّل على مدى الوجود، وينضج، وهو لذلك، بالطبع، يبقى أميناً لذاته. نريدُ الشيءَ نفسه ولا نريدُ الشيءَ نفسَه9؛ هذا ما رآه الأقدمون محتوًى أصيلاً للحبّ: أن يصبح الواحدُ شبيهاً للآخر، فيؤول ذلك إلى شركة في الإرادة والفكر. تقوم قصة الحبّ بين الله والإنسان حقاً في أن تتنامى شركة الإرادة تلك في شركة الفكر والشعور فيتوافق ما نريد، هكذا على الدوام أكثر، مع إرادة الله: فإرادة الله لم تعد بالنسبة إليّ إرادةً غريبة، تفرضها عليّ الوصايا من الخارج، بل تصبح إرادتي الخاصّة، على أساس الاختبار بأن الله، فعلاً، هو أقرب إليّ أكثر مما أنا عليه من ذاتي10. حينئذٍ يتنامى الاستسلامُ لله واللهُ يصبح فرحَنا (را مز 72 [73]: 23-28).

18. محبّة القريب، بالمعنى الذي حدّده الكتاب المقدّس على لسان يسوع، تظهر حينئذٍ ممكنة. فهي تقوم، بالطبع، على أن أحبَّ أيضاً، في الله ومع الله، الشخص الذي لا أقدِره، أو حتى الذي لا أعرفه. ولن يمكن أن يتمّ ذلك إلاّ انطلاقاً من اللقاء الحميم مع الله، لقاءٍ أصبح شركة في الإرادة تنتهي بملامسة العاطفة. فأتعلّم إذ ذاك بأن أنظر إلى ذاك الشخص الآخر، ليس فقط بعينيَّ وعواطفي، لكن من وجهة نظر يسوعَ المسيح. فصديقُه صديقي. وما وراءَ مظهر الآخر الخارجيّ، يبزغ انتظارُه الداخليُّ لحركة حبّ، لحركة انتباه، لا أمنحه إياها فقط عبرَ منظماتٍ أُنشئَت لهذا الغرضِ، قابلاً إياه لربّما، من باب الضرورة السياسيّة. أنظر وأرى بعينَي المسيح فأستطيع أن أعطيَ الآخر أكثر بكثيرٍ من الأشياء التي يحتاج إليها خارجيّاً: يمكنني أن أهبه نظرة الحبّ التي يحتاج إليها. هنا، يظهر التفاعلُ الضروريُّ بين محبّة الله ومحبّة القريب، التفاعل الذي تشدّد عليه رسالة يوحنا الأولى. إذا كنت أفتقر كليّاً في حياتي إلى التواصل مع الله، فلن أستطيع ابداً أن أرى في الآخَر إلاّ الآخَر، ولن أنجح في أن أتعرّف فيه على صورة الله. وإذا، بالعكس، أهملتُ تماماً في حياتي الانتباهَ إلى الآخر، راغباً فقط في أن أكون «تقيّاً» وأتمّم «واجباتي الدينيّة»، فحينئذٍ حتى علاقاتي مع الله تيبس. فتكون فقط «صحيحة»، ولكن خالية من الحبّ. فقط استعدادي للذهاب إلى ملاقاة القريب، والإعرابُ له عن الحبّ، يجعلني أيضاً مرهفَ الحسّ أمام الله. وحدَها خدمة القريب تفتح عينيّ على ما يصنعه الله من أجلي، وعلى طريقته هو في محبّته لي. إن القدّيسين – لنفكرنَّ مثلاً بالطوباويّة تريزا دي كالكوتا – قد نهلوا من لقائهم الربَّ في الإفخارستيّا القدرة على محبّة القريب بتجدّد دائم، وبالمقابل اكتسب ذلك اللقاءُ واقعيّته وعمقه، بالضبط، بفضل خدمتهم الآخرين. محبّة الله ومحبّة القريب لا يمكن فصلُهما، فهما وصيّة واحدة. إلاّ أنهما، كلاهما، يحييان من محبّة الله السبّاقة، الله الذي أحبّنا هو أولاً. وهكذا، لم يعد الموضوعُ موضوعَ «وصيّة» تفرض علينا المستحيل من الخارج، بل على العكس من ذلك، اختبارَ حبٍّ، نابعٍ من الداخل، حبٍّ، يجب من طبيعته، لاحقاً، أن يُتقاسمَ مع آخرين. الحبُّ ينميه الحبُّ. الحبُّ «إلهيّ» لأنه ينبع من الله ويوّحدنا مع الله. ومن خلال مسيرة التوحيد هذه، يحوّلنا إلى «نحنُ». واحد يتجاوز انقساماتنا ويجعل منّا واحداً، حتى يصير الله، في النهاية، «كلاًّ في الكلّ» (1 كو 15: 28).

   القسم الثاني

محبّة

ممارسة المحبّة من قِبَل الكنيسة

بصفتها 

«جماعة محبّة»

محبّة الكنيسة باعتبارها ظهوراً لمحبّة الثالوث

19. «ترى الثالوث عندما ترى المحبّة»11، كتب القديس أوغسطينُس. في التأمّلات التي سبقت، استطعنا أن نثبّت نظرنا على الذي طُعن جنبُه (را يو 19: 37؛ زك 12: 10)، وتعرّفنا على تدبير الآب الذي، بدافع المحبّة (را يو 3: 16)، أرسل ابنه الوحيد، إلى العالم كي يفتدي الإنسان. إن يسوع، بموته على الصليب – كما يشير إلى ذلك الإنجيليّ – «أسلم الروح» (يو 19: 30)، تمهيداً لمنحه الروحَ القدس الذي أعطاه بعد القيامة (را يو 20: 22). فتحقّق بذلك الوعدُ «بأنهار ماءٍ حيٍّ» تتدفّق من قلوب المؤمنين (را يو 7: 38-39)، بفضل فيض الروح. إن الروح، في الواقع، هو قدرةٌ داخليّة تجعل قلبَهم يجاري قلب المسيح، وتحثّهم على محبّة إخوتهم كما أحبّهم هو، عندما انحنى ليغسل أرجل تلاميذه (را يو 13: 1-13)، وبالأخصّ عندما بذل حياته من أجل الجميع (را يو 13: 1؛ 15: 13).

الروح هو أيضاً القوّة التي تبدّل قلب الجماعة الكنسيّة، كي تكون، في العالم، شاهدةً لمحبّة الآب، الذي يريد أن يجعل من البشرية، في ابنه، أسرةً واحدة. كلُّ نشاط الكنيسة هو تعبيرٌ عن الحبّ الذي ينشُد الخيرَ الكاملَ للإنسان: تنشُد تبشيرَه بالكلمة والأسرار، إنها مهمّة غالباً ما هي بطوليّة في إنجازاتها التاريخيّة؛ وتنشُد ترقّيَه في مختلف ميادين الحياة والعمل الإنسانيَّين.

الحبُّ هو إذاً الخدمةُ التي تؤمّنها الكنيسة كي تذهب على الدوام إلى أمام عذابات الناس وحاجاتهم، حتى الماديّة منها. هذه هي الناحية، خدمة المحبّة، التي أرغب في التوقّف عندها في هذا القسم الثاني من الرسالة الجامعة.

المحبّة بصفتها مهمّةَ الكنيسة

20. إن محبّة القريب المتأصّلة في محبّة الله هي، قبل كل شيء، خدمةٌ تؤدَّى إلى كلّ مؤمن، لكنها أيضاً خدمة تؤدَّى إلى الجماعة الكنسيّة كلّها، وذلك على جميع الأصعدة: من الجماعة المحليّة إلى الكنيسة الخاصّة حتى الكنيسة الجامعة بمجملها. والكنيسة أيضاً، باعتبارها جماعة، عليها أن تمارس المحبّة. بالتالي، إن المحبّة يعوزها تنظيمٌ لأنه يُفترض أنها خدمة جماعيّة منظَّمة. إن وعي هذه المهمة اتّسم بطابع تنظيميّ في الكنيسة منذ نشأتها: «وكان جميع المؤمنين يعيشون معاً؛ وكان كلُّ شيء مشتركاً في ما بينهم؛ وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزّعون أثمانها على الجميع بحسب حاجة كلِّ واحد منهم» (أع 2: 44-45). يخبرنا لوقا ذلك بالعلاقة مع شبهِ تحديدٍ للكنيسة، عدّد بعضَ عناصره التأسيسيّة، منها: الانضمامُ إلى «تعليم الرسل»، «الشركة» (كينونيّا)، و«كسرُ الخبز» و«الصلاة» (را أع 2: 42). عنصرُ «الشركة» (كينونيّا) غيرُ المحدَّد هنا أصلاً، تحقّق في الآيات السابقة الذكر أعلاه: تقوم تلك الشركة بالضبط على أنَّ كلَّ شيء، لدى المؤمنين، مشتركٌ، وأنَّ الفرقَ في ما بينهم، بين أغنياء وفقراء، لا وجود له (را أيضاً أع 4: 32-37). هذا الشكلُ الجذريُّ من الشركة الماديّة لم يُستطع، والحقُّ يُقال، الحفاظُ عليه مع تنامي الكنيسة. إنما ثبتَت النواةُ الجوهريّة: وسط جماعة المؤمنين يجب ألاّ يوجد شكلُ فقرٍ بحيث تُرفض للبعض الخيراتُ الضروريّةُ لحياةٍ كريمة.

21. هنا تظهر لنا بجلاءٍ مرحلةٌ حاسمةٌ في البحث الصعب عن حلول تحقّق هذا المبدأ الكنسيَّ الأساسيّ باختيار سبعة رجال، فكان بدءُ الخدمة الشموسيّة الإنجيليّة (را أع 6: 5-6). تولّد، في الواقع، في الكنيسة الأولى، تباينٌ في التوزيع اليوميّ للأرامل، بين الجماعة الناطقة بالعبريّة وتلك الناطقة باليونانيّة. فشعر الرسلُ الموكولُ إليهم قبل كلِّ شيء «الصلاةُ» (الافخارستيّا والليترجيّا) و«خدمةُ الكلمة» أنهم مرتبطون بإفراط بـ«خدمة الموائد»؛ فقرّروا حينئذٍ أن يتكرّسوا للخدمة الرئيسة ويُنشئوا للمهمّة الأخرى، البالغة الضرورة في الكنيسة، جماعةً من سبعة أشخاص. إلا أنه، كان على هذه الجماعة نفسها ألاّ تقوم بخدمة توزيعٍ محض تقنيّة: بل يجب أن يكونوا رجالاً «ممتلئين من الروح القدس والحكمة» (را أع 6: 1-6). هذا يعني أن الخدمة الاجتماعيّة الواجب عليهم تأديتُها هي عملٌ حسّيٌّ تماماً، لكنه، في الوقت عينه، بدون شك، خدمةٌ روحيّة؛ كان ذلك، إذاً، بالنسبة إليهم، خدمةً روحيّة حقَّة تُؤدّي مهمّةً كنسيّةً جوهريّة، هي محبّة القريب المنظَّمة تمام التنظيم. بتأسيس جماعةِ السبعة هذه، أُنشئت، من الآن فصاعداً، «الذياكونيّا» – أي خدمة محبّة القريب الممارَسة بطريقة جماعيّة ومنظّمة – في البنية الأساسيّة للكنيسة نفسها.

22. مع مرور السنين، ومع انتشار الكنيسة التدريجيّ، تثبّتت خدمة المحبّة كواحدٍ من قطاعات الكنيسة الجوهريّة، مع منح الأسرار وإعلان الكلمة: ممارسةُ المحبّة نحو الأرامل واليتامى، نحو السجناء والمرضى وجميع الأشخاص الذين، بطريقة ما، هم في العوَز، هذا كلّه يُعتبر من صُلب جوهر الكنيسة، بالقدر ذاته الذي تُعتبر به خدمة الأسرار وإعلانُ الإنجيل. لا يمكن الكنيسة أن تهمل خدمة المحبّة، مثلما لا يمكنها أن تُهمل الأسرار ولا الكلمة. بعض المراجع يكفي لإثبات ذلك. يصف الشهيد يوستينُس († نحو 155) أيضاً، في إطار احتفال المسيحيّين بيوم الربّ، نشاطَهم في خدمة المحبة، المرتبطَ بالإفخارستيّا بحدّ ذاتها. كان الميسورون يقدّمون هباتٍ بقدر ما يمكنهم، كلٌّ وفق ما يريد. فيستخدمها الأسقف حينئذٍ لمساندة اليتامى والأرامل والأشخاص المعوزين بسبب مرضٍ أو لأيّ سببٍ آخر، وكذلك للسجناء والغرباء12. ويروي الكاتب المسيحيّ الكبير ترتليانُس († بعد 220) كيف أن اعتناءَ المسيحيّين بجميع الأشخاص المعوزين كان يثير إعجاب الوثنيّين13. وعندما يصف إغناطيوس الأنطاكي ( †نحو117) كنيسة رومة بأنها «ترئس في المحبّة» (أغابي)14، يمكن أن نعتبر أنه، بهذا التحديد، كان يقصد الحديثَ، بطريقة ما، عن نشاط خدمة المحبّة.

23. في هذا الإطار، من النافع أن نرجع إلى الهيكليّات القانونيّة الأولى بشأن خدمة المحبّة في الكنيسة. في أواسط القرن الرابع، تنظّمت بمصر ما يسمّى، «الذياكونيّا»؛ فتشكّلت، في كلّ دير، الهيئة المسؤولة عن مجمل خدَمات الإعانة، وبالضبط خدمة المحبّة. منذ البدء وحتى نهاية القرن السادس تطوّرت بمصر جماعةٌ تتمتّع بملءِ القدرة القانونيّة، أوكلت إليها السلطات المدنيّة حتى جزءًا من القمح للتوزيع العام. في مصر، ليس فقط كلُّ دير، بل أيضاً كلُّ أبرشيّة آل بها الأمر إلى امتلاك ذياكونيّا، المؤسّسة التي ستتطوّر لاحقاً في الشرق كما في الغرب. ويشير البابا غريغوريوس الكبير (†604) إلى ذياكونيّا نابولي؛ في ما يخصّ رومة، تشير الوثائق إلى ذياكونيّات بدءًا من القرنين السابع والثامن. لكن بالطبع، وذلك من قبل ومنذ البدء، كان نشاط مساعدة الفقراء والمتألّمين يشكل جزءًا جوهريّاً من حياة كنيسة رومة، وفقاً لمبادىء الحياة المسيحيّة التي يعرضها سفر أعمال الرسل. ولقد وجدت هذه المهمّة تعبيراً حيّاً في شخص الشماس الإنجيليّ لورنسيوس (†258). عرف القديس أمبروسيوس (†793)، في عهده، الوصفَ المأسويّ لاستشهاده الذي تبدو لنا، في محوره، صورة القديس الأصيلة. فلقد أُعطي، هو المسؤول عن مساعدة فقراء رومة، فترةً من الزمن، بعد توقيف رفاقه والبابا، كي يجمع كنوز الكنيسة ويسلّمها إلى السلطات المدنيّة. فوزّع لورنسيوس المال المتوفّر على الفقراء وجاء بهم حينئذٍ وقدّمهم للسلطات، على أنهم الكنز الحقيقيّ للكنيسة15. مهما تكن الصدقيّة التاريخيّة لهذه التفاصيل، فلورنسيوس بقي حاضراً في ذاكرة الكنيسة كممثّل عظيم للمحبّة الكنسيّة.

24. في عودة إلى شخس الإمبراطور يوليانـوس الجاحـد (†363) يظهر أيضاً مرّةّ أخرى أن المحبّة المنظمة التي مارستها كنيسة القرون الأولى هي جوهريّة. فيما كان يوليانوس في السادسة من عمره، شهد اغتيال والده وشقيقه وبعضاً من أقاربه، على يد حرَس القصر الإمبراطوريّ؛ فعزا تلك الوحشيّة – خطأً أو صواباً – إلى الإمبراطور كونستانس الذي كان يدّعي أنه مسيحيّ كبير. على الأثر، فقد يوليانوسُ الثقة كليّاً بالإيمان المسيحيّ. ولما أصبح إمبراطوراً، قرّر أن يعيد سيطرة الوثنيّة، الديانة الرومانيّة القديمة، ولكن في الوقت نفسه أن يُصلحها بحيث تكون لاحقاً القوّة الجذّابة في الإمبراطوريّة. لتحقيق ذلك، استوحى الكثير من الديانة المسيحيّة. وأنشأ تراتبيّة (إيرَرخيّة) من المتروبوليتين والكهنة. كان على الكهنة أن يتنبّهوا لمحبّة الله ومحبّة القريب. ولقد جاء، في إحدى رسائله16، أن المظهر الوحيد الذي يؤثّر فيه في المسيحيّة هو نشاط الكنيسة في خدمة المحبّة. ومن أجل وثنيّته الجديدة، كان إذاً من اللازم أن ينشىءَ، إلى جانب نهج محبّة الكنيسة، نشاطاً مماثلاً في ديانته. بتلك الطريقة، اكتسب «الجليليّون» – على حدّ قوله – شعبيّتهم. فكان من الواجب أن يباريَهم وحتى أن يفوق شعبيَّتهم. بذلك أثبت الإمبراطور إذاً أن المحبّة هي ميزةٌ حاسمة للجماعة المسيحيّة، للكنيسة.

25. ببلوغنا هذا الحدّ، نقتطف من تأملاتنا عنصرين جوهريَّين:

أ) طبيعة الكنيسة العميقة يعبَّر عنها بمهمّات ثلاث: إعلان كلمة الله (التعليم–الشهادة)، الاحتفال بالأسرار (الليترجيّا) وخدمة المحبّة (الذياكونيّا). مهمّاتٌ ثلاثٌ تستدعي الواحدة منها الأخرى ولا يمكن فصلُ الواحدة عن الأخرى. لا تعتبر الكنيسة المحبّة نوعاً من نشاط المساعدة الاجتماعيّة يمكن أيضاً التنازل عنه لآخرين، بل تعتبر المحبّة من صلب طبيعتها، إنها تعبيرٌ عن جوهرها ذاته، الذي لا يمكن أن تتخلّى عنه17.

ب) الكنيسة هي أسرة الله في العالم. في هذه الأسرة، يجب ألاّ يتألم أحدٌ من نقص في ما هو ضروريّ. في الوقت عينه، تتجاوز المحبّة (كاريتاس- أغابي) حدود الكنيسة؛ ما زال مثَل السامريّ الرحيم مقياساً للتقويم، إنه يفرض شموليّة المحبّة التي تتوجَّه إلى من هو في عوَز، نلتقيه «صدفةً» (را لو 10: 31)، أيّاً كان. وفيما نحافظ على شموليّة وصيّة المحبّة، نجد مع ذلك أنَّ هناك مطلباً كنسيّاً مميِّزاً – ذاك الذي يذكّر بالضبط أن في الكنيسة نفسها كأسرة، يجب ألاّ يتألّم أيُّ عضوٍ لأنه في عوز. كلمات الرسالة إلى الغلاطيّين تسير في هذا المنحى: «فلنُحسن إذن إلى الجميع ما دامت لنا الفرصة؛ ولاسيّما إلى الذين هم شركاؤنا في الإيمان» (6: 10).

عدالة ومحبّة

26. منذ القرن التاسعَ عشر، أُثير اعتراضٌ ضدَّ نشاط الكنيسة في خدمة المحبة، اعتراضٌ تطوّر لاحقاً بإصرار، بالأخصّ بواسطة الفكر الماركسيّ. فقيل إن الفقراء ليسوا بحاجة إلى أعمال برّ، بل بالأحرى إلى عدالة. فأعمال البرّ – الإحسانات – تشكّل بالحقيقة للأغنياء أسلوباً للتهرّب من إحلال العدالة ولإراحة ضميرهم، محافظين على مواقفهم وسالبين الفقراءَ حقوقهم. فبدلاً من الإسهام في الحفاظ على الأوضاع الراهنة، من خلال أعمال المحبّة المختلفة، يجب خلق نظام عادل، ينال الجميعُ فيه حصّتهم من خيرات العالم، فلا يُحتاج إذاً من بعدُ إلى أعمال المحبّة. في هذه المحاجَّة، نقرُّ أنه يوجد بعضُ الحقيقة، ولكن كثيرٌ من الأخطاء أيضاً. من الأكيد أن نظام الدولة الأساسيّ يجب أن يقوم على نشدان العدالة، وأن هدفَ نظام اجتماعيّ عادل يقوم على أن تؤمَّن لكلّ فرد حصّتُه من الخير العام، مع احترام مبدإ التعاون والتكامل. هذا ما أشارت إليه دائماً العقيدة المسيحية بشأن الدولة وتعليم الكنيسة الاجتماعيّ. من جهة تاريخيّة دخلت قضيّة نظام الجماعة العادل في طَور جديد مع إنشاء المجتمع الصناعيّ في القرن التاسع عشر. رأى إنشاءُ الصناعة الحديثة انقراضَ الهيكليّات الاجتماعيّة القديمة، فأثار، مع جماهير الأجَراء، تبدّلاً جذريّاً في تركيب المجتمع، حيث أصبحت العلاقة بين الرأسمال والعمل القضيّة الحاسمة، قضيّة لم تكن حتى الساعة معروفة بهذا الشكل. فأصبحت، من ثمَّ، هيكليّات الإنتاج والرأسمال قوّةً جديدة آلت، باستيلاء قلةٍ من الناس عليها، بالنسبة إلى الجماهير الكادحة، إلى حرمانٍ من الحقوق، كان من الواجب إعلان العصيان عليه.

27. من الحقّ أن نقرّ بأن ممثّلي الكنيسة تمهّلوا في الإحساس بأن هيكليّة المجتمع العادلة أخذت تُطرح بطريقة جديدة. وتوفّر الروّاد: منهم، مثلاً، المونسنيور كيتلر (Kettler)، مطران ماينز († 1877). ونشأت أيضاً، ردّاً على الضرورات العمليّة، نوادٍ ومنظماتٌ واتحاداتٌ وجماعات، وبالأخصّ جمعيّاتٌ رهبانيّةٌ جديدة إلتزمَت، في القرن التاسع عشر، العمل ضدَّ الفقر والأمراض وأوضاع النقص في القطاع التربويّ. وسنة 1891، تدخلت السلطة التعليميّة الحبريّة، فأصدر لاون الثالث عشر الرسالة الجامعة «الشؤون الحديثة». جاءت بعدها، سنة 1931، الرسالة الجامعة «السنة الأربعون» للبابا بيوس الحادي عشر. وأصدر الطوباويّ البابا يوحنا الثالث والعشرين، سنة 1961 الرسالة الجامعة «أمّ ومعلّمة»؛ وبدوره، واجه بولس السادس، في الرسالة الجامعة «ترقّي الشعوب» (1967) وفي الرسالة الرسوليّة «حول الثمانين» (1971)، الإشكاليّة الاجتماعيّة، التي، في هذا الوقت، كانت قد أصبحت حالةً طارئة، بالأخص في أميركا اللاتينيّة. ولقد ترك لنا سلفي العظيم يوحنا بولس الثاني ثلاثيّة من الرسائل الجامعة الاجتماعيّة: «العمل البشريّ» (1981)، و«الاهتمام بالشأن الاجتماعيّ» (1987)، وأخيراً «السنة المئة» (1991). وهكذا، إزاء أوضاعٍ ومعضلاتٍ دائمةِ التجدّد تطوّرت عقيدةٌ اجتماعيّةٌ كاثوليكيّة، قُدّمت، سنة 2004، بطريقة منظّمة في «مختصر عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة»·، من وضع المجلس الحبري عدالة وسلام. كانت الماركسيّة قد عرضت الثورةَ العالميّة وتهيئتَها كترياقٍ للإشكالية الاجتماعيّة: فأكّدت تلك العقيدة أنه، مع الثورة وتملّك الجماعة لوسائل الإنتاج الذي لحق بها، كلُّ شيء يجب للحال أن يسير بطريقة أخرى وفضلى. اضمحلَّ ذلك الحلم. في الوضع الصعب الذي نتخبط فيه اليوم، وبسبب عولمةِ الاقتصاد، أيضاً، أصبحت عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة مرجعاً أساسيّاُ يقترح توجيهاتٍ صالحةً إلى ما أبعد من حدودها: إن تلك التوجيهات – إزاء التطور المتنامي – يجب أن تُدرَك في الحوار مع جميع الذين يهتمّون بجدٍّ بالإنسان والعالم.

28. كي نحدّد أكثر بالضبط العلاقةَ بين الالتزام الضروري لإحلال العدالة وتأمين خدمة المحبة، يجب الأخذُ بالحسبان وضعَين في الواقع أساسيَّين:

أ) نظام المجتمع والدولة العادل هو واجبُ السياسة الجوهريّ. دولةٌ لا تُساس طبقاً للعدالة، تقتصر على زمرة كبيرة من السفهاء، كما قال يوماً القديس أوغسطينُس: «في الواقع، إذا فُقد العدل، فما الممالك سوى جماعات كبيرة من اللصوص؟»18. إن التمييز بين ما هو لقيصر وما هو لله (را متى 22: 21)، أي التمييز بين دولة وكنيسة، أو، على حدّ تعبير المجمع الفاتيكانيّ الثاني، استقلال الأوضاع الزمنيّة19، يرجع إلى هيكليّة المسيحيّة الأساسيّة. لا تستطيع الدولة أن تفرض الدِّين، بل من الواجب أن تؤمّن له الحريّة، وكذلك السلامَ بين مؤمني الأديان المختلفة. من جهتها، تتمتّع الكنيسة، بصفتها تعبيراً اجتماعيّاً عن الإيمان المسيحيّ، باستقلالها؛ وبارتكازها على إيمانها، تحيا وضعَها الجماعيّ، الواجبَ على الدولة احترامُه. القطبان متمّيزان، لكنهما في علاقة تبادل دائمة.

العدالة هي هدفُ كلّ سياسة، لكنها أيضاً مقياسُها الجوهريّ. السياسة هي أكثر من تقنيّة بسيطة لتحديد التنظيمات العامّة: فمصدرُها وغايتُها متضمَّنان بالضبط في العدالة، وهذا ناجمٌ عن طبيعة خلُقيّة: هكذا تواجه الدولة لا محالة السؤال: كيف تحقَّق العدالة في المكان والزمان؟ لكن هذا السؤال يفترض سؤالاً آخر أكثر جذريّة: ما هي العدالة؟ تلك قضيّة تعني العقل العمليّ؛ لكن كي يستطيع العقل أن يعمل باستقامة، عليه أن يتنقّى على الدوام، لأنَّ عماه الأخلاقيّ، الناجمَ عن تجربة المنفعة والتسلّط اللذين يبهرانه، هو خطرٌ لا يمكن أبداً استئصاله كليّاً.

في هذا المجال، تتلاقى السياسة والإيمان. بدون شك، يتمتّع الإيمان بطبيعة مميَّزة تسهّل اللقاءَ مع الله الحيّ، لقاءً يفتح أمامنا آفاقاً جديدة، إلى ما أبعد بكثير من ميدان العقل الخاصّ. لكنّ الإيمان، في الوقت عينه، هو قوّة تنقّي العقل نفسه. بانطلاقه من منظور الله، يحرّر الإيمان العقلَ من غباواته، وبالتالي يساعده على أن يكون هو نفسه أفضل. يسمحُ الإيمان للعقل بالقيام بمهمّته على أحسن ما يُرام وأن يميّز ما يخصّه بطريقة فضلى. هذا هو موقع عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة: إنها لا تريد أن توليَ الكنيسةَ سلطةً على الدولة. إنها لا تريد حتى أن تفرض على من لا يقاسمونها إيمانَها نظريّاتٍ أو تصرّفاتٍ تخصّها. إنها تريد فقط أن تسهم في تنقية العقل وتؤدّي قسطها، بحيث إن ما هو عدلٌ يمكن أن يُعترف به في المكان والزمان وأن يوضع أيضاً موضعَ التطبيق.

عقيدةُ الكنيسة الاجتماعيّة تحاجّ، انطلاقاً من العقلِ والحقِّ الطبيعييّ، أي انطلاقاً ممّا يتوافق وطبيعةَ كلِّ كائن بشريّ. وتعرف أنه ليس من حقّ الكنيسة أن تفرض هي نفسُها سياسيّاً هذه العقيدة: إنها تريد أن تؤمّن تنشئة الضمائر في الميدان السياسيّ وتُسهم في إنماء الإحساس بمتطلَّبات العدالة الحقيقيّة، وفي الوقت عينه، تأمين جهوزيّة العمل لصالح تلك المتطلَّبات، حتى إذا تعارض ذلك مع أوضاع منفعةٍ خاصّة. هذا يعني أن إرساءَ نظامٍ عادلٍ للمجتمع والدولة، به يُعطى كلُّ فرد ما يعود إليه، هو واجبٌ أساسيّ، على كلّ جيلٍ أن يواجهه مجدَّداً. إذا ما تعلّق الأمرُ بواجبٍ سياسيّ، فهذا لا يقع على عاتق الكنيسة المباشر. لكن، بما أنه، في الوقت عينه، واجبٌ إنسانيّ أوليّ، فمن واجب الكنيسة أن تؤدّي مساهمةً مميَّزة، بفضل تنقيةِ العقل والتنشئةِ الأخلاقيّة، كي تصبح متطلَّبات العدالة مفهومةً وممكنةَ التحقيق سياسيّاً.

لا يمكن الكنيسة ولا يجب عليها أن تقوم بمعركة سياسيّة كي تشيد المجتمعَ الأفضلَ عدالة. لا يمكنها ولا يجب عليها أن تقوم مقام الدولة. لكن لا يمكنها ولا يجب عليها كذلك أن تبقى على حدة في معركة إحلال العدالة. يجب عليها أن تنخرط فيها، عبرَ المحاجّة العقلانيّة، وعليها أن تستحثَّ القوى الروحانيّة التي، بدونها، لا تستطيع العدالة، التي تتطلّب أيضاً تجرّداً، أن تتثبّت وتتطوّر. لا يمكن أن يكون المجتمع العادل من صنع الكنيسة، لكن يجب أن تحقّقه السياسة. إلاّ أن الالتزام من أجل العدالة، الالتزامَ العاملَ على انفتاح الفكر والإرادة على متطلَّبات الخير، يعني الكنيسة إلى حدٍّ كبير.

ب) المحبّة – كاريتاس – سوف تبقى ضروريّة، حتى في المجتمع الأكثر عدلاً. لا نظامَ دولةٍ عادلاً يمكنه أن يهمِّش خدمة المحبّة. فمن يريد أن يتحرّر من المحبّة يستعدّ للتحرّر من الإنسان، بصفته إنساناً. ولسوف يوجد دائماً عذابٌ يستدعي تعزيةً ومساعدة. ولسوف يوجد دائماً عزلة. كذلك، سوف يوجد دائماً أوضاعُ ضرورةٍ ماديّة تستدعي مساعدةً، بمعنى محبّةٍ فعليّةٍ للقريب20. إن الدولة التي تريد تأمين كلِّ شيء والتي تستحوذ في ذاتها على كلِّ شيء، تصبح في النهاية مرجعاً بيروقراطيّاً لا يمكنه أن يؤمّن جوهر ما يحتاج إليه الإنسان المتألم – كلُّ إنسان -: التضحية الشخصيّة المليئة بالحبّ. لسنا بحاجة إلى دولة تتسلّط وتستولي على كلّ شيء، بل على العكس من ذلك إنّا بحاجة إلى دولة تعترف برحابة صدر، وتساند، حسب مبدإ المساعدة والتكامل، المبادرات التي تطلقها مختلف القوى الاجتماعيّة، والتي تؤالف بين الطوعيّة والتقرّب من الأشخاص المحتاجين إلى معونة. الكنيسة هي واحدة من تلك القوى الحيّة: فيها تحيا ديناميكيّة الحبّ الذي بعثه روحُ المسيح. هذا الحبّ لا يقدّم فقط للناس مساعدةً ماديّة، بل أيضاً مؤاساةً وعنايةً بالنفس، مساعدةً غالباً ما تكون أكثر ضرورةً من السند الماديّ. إن التأكيد بأن الهيكليّات العادلة تجعل من أعمال المحبّة أعمالاً يُستغنى عنها، يُخفي بالحقيقة مفهوماً للإنسان ماديّاً: الحكم المسبَّق بأن الإنسان يحيا «من الخبز وحده» (متى 4: 4؛ را تث 8: 3)، هو اقتناعٌ يُذِلُّ الإنسان ويتجاهل بالضبط ما هو، بتمييز، الأكثرُ إنسانيّة.

29. هكذا، يمكننا الآن أن نحدّد بأكثرَ دقّةً، في حياة الكنيسة، العلاقة بين الالتزام من أجل نظامٍ للدولة وللمجتمع عادل، من جهة، ونشاط خدمة المحبّة المنظَّم، من جهة أخرى. رأينا أن إنشاء هيكليّات عادلة ليس، مباشرةً من اختصاص الكنيسة، بل يعود إلى دائرة السياسة، أي إلى ميدان العقل المسؤول عن ذاته. في ذلك، مهمّة الكنيسة مهمّةٌ غيرُ مباشرة، من حيث إنه يعود إليها أن تُسهم في تنقية الضمير وتوقظ القوى الأخلاقيّة التي، بدونها، لا يمكن الهيكليّات العادلة لا أن تبنى ولا أن تعمل على مدًى طويل.

إن الواجب المباشر في العمل من أجل إحلال نظام عادل في المجتمع هو، على العكس، من اختصاص المؤمنين العلمانيّين. إنهم مدعوّون، باعتبارهم مواطنين في الدولة، إلى الاشتراك شخصيّاً في الحياة العامة. فلا يمكنهم، إذاً، أن يتخلَّوا عن «العمل المتعدّد الأشكال، الاقتصاديّ والاجتماعيّ والتشريعيّ والإداريّ والثقافيّ، الذي يهدف إلى تعزيز الخير العام، تنظيميّاً وبواسطة المؤسَّسات»21. إحدى رسالات المؤمنين هي، إذاً، أن يعطوا شكلاً قويماً للحياة الاجتماعيّة، باحترامهم استقلاليّتها الشرعيّة، وبمساهمتهم مع المواطنين الآخرين، بحسب كفاءات كلٍّ منهم وتحت مسؤوليّتهم الخاصّة22. حتى إذا كانت تعابيرُ المحبّة الكنسيّة المميَّزةُ لا يمكنها أبداً أن تنصهر مع نشاط الدولة، إلاّ أنه يصحُّ أنّ على المحبّة أن تنعش وجود المؤمنين العلمانيّين بأكملها، فيحيَون ثمة نشاطهم السياسيَّ كـ «محبّة اجتماعيّة»23.

على العكس من ذلك، تجسّد منظَّمات خدمة المحبّة في الكنيسة مهمّتها الخاصّة (opus proprium)، مهمّةً تتوافق وطبيعتَها، ولا تُسهم فيها بطريقة هامشيّة، بل تعمل كشخصٍ مسؤولٍ مباشرةً، يقوم بما يتناسب وطبيعتَه. لا يمكن الكنيسة البتّة أن تستعفيَ من ممارسة المحبّة، بصفتها نشاطاً منظَّماً يقوم به المؤمنون؛ ومن جهة أخرى، لن يوجد أبداً وضعٌ يمكن أن يُستغنى فيه عن محبّة كلّ مسيحيّ، لأن الإنسان كان، وسيظلُّ أبداً، بحاجة، في ما أبعد من العدالة، إلى الحبّ.

هيكليات خدمة المحبّة العديدة

في الإطار الاجتماعيّ الراهن.

30. قبل أن أُحاول تحديدَ الجانب المميَّز للنشاطات الكنسيّة في خدمة الإنسان، أودُّ الآن أن أنظر في الوضع العام للالتزام من أجل إحلال العدالة والحبّ في عالم اليوم.

أ) إن وسائل التواصل الجماعيّ قد صغّرت، من الآن فصاعداً، حجم كوكبنا، عاملةً بسرعةٍ على تقريب الناس والثقافات المختلفين اختلافاً شديداً. إذا كان هذا «التعايش» يثير غالباً عدمَ تفهّم وتوتّرات، إلاّ أن التعرّف الآن، بطريقة مباشرة لا سابق لها ولا مثيل، على حاجات الناس يمثّل بالأخصّ نداءً لمقاسمة وضعهم ومصاعبهم. كلَّ يوم، نعي أهميّة العذاب في العالم، سببُه بؤسٌ ماديٌّ بقدر ما هو روحيّ، يتّخذ أشكالاً عديدة، رغماً عن التقدّم العظيم في مضمار العلم والتقنيّة. عصرنا يبحث، إذاً، عن جهوزيّة جديدة لنصرة القريب المحتاج إلى مساعدة. لقد سبق المجمعُ الفاتيكانيُّ الثاني وأشار إلى ذلك، بكلّ وضوح: «لأن وسائل التواصل اليومَ أوفرُ وأسرعُ حتى ليمكن القولُ بأنّ المسافاتِ بين الناس قد قُهرت […]، فأعمال المحبّة يُمكنها، من ثمَّ، بل يجب عليها اليوم أن تضع نصب أعينها حتماً جميعَ الناس وجميعَ الحاجات»24.

من جهة أخرى – وفي ذلك مظهرٌ لمسيرة العولمة مثيرٌ، وفي الوقت عينه مشجّع – إن الزمن الحاضر يضع في تصرّفنا وسائل عديدة كي نؤمّن مساعدةً إنسانيّة لإخوتنا المحتاجين، ويوفّر بالأخصّ أساليبَ حديثةً لتوزيع الغذاء والكسوة، وكذلك لاقتراح سكنٍ واستقبال. بتجاوز حدود الجماعات الوطنيّة، يهدف الاهتمامُ بالقريب هكذا إلى توسيع آفاقه إلى العالم أجمع. ولقد أشار المجمعُ الفاتيكانيُّ الثاني بحقٍّ إلى ذلك: «ومن علامات أزمنة عصرنا، يجدرُ أن ننوّه بالأخص بالوعي المتنامي والمحتَّم للتضامن بين جميع الشعوب»25. إن مؤسَّسات الدولة والمنظمات الإنسانيّة تشجّع المبادرات بغية تحقيق هذا الهدف، وذلك بإعاناتٍ أو بحسوماتٍ ضريبيّة للبعض، فتتوفَّر موارد طائلة للآخرين. وهكذا فالتضامن الذي يؤمّنه المجتمع المدنيّ يفوق، بطريقة معبّرة، تضامن الأفراد.

ب) في هذه الحال، نشأت وتطوّرت، من خلال مراجع الدولة والكنيسة، أشكالُ تعاونٍ عديدة تبيّن أنها مثمرة. إن المؤسَّسات الكنسيّة، بفضل شفافيّة وسائل عملها والأمانة لواجب شهادتها للحبّ، تستطيع أيضاً أن تنعش مسيحيّاً المؤسَّسات المدنيّة، بتوفير تنسيقٍ متبادل، لا بدَّ أن يعود بالنفع على فعّاليّة خدمة المحبّة26. في هذا الإطار، أُنشئت أيضاً منظَّماتٌ مختلفةٌ ذاتُ هدفٍ خيريّ أو إحسانيّ للبشر تلتزم، إزاء المعضلات الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة، بأن توفّر حلولاً مُرضيةً في الميدان الإنسانيّ. ويشكّل ظاهرةً مهمةً في عصرنا إنشاءُ وانتشار مختلف أشكال التطوّع التي تأخذ على عاتقها العديد من الخدمات27. أودُّ هنا أن أوجّه كلمة عرفان وشكر إلى جميع الذين يشاركون، بطريقة أو بأخرى، في مثل هذه النشاطات. إن تطوّر مثل هذا الالتزام، يمثّل للشباب مدرسةَ حياةٍ تعلّم التضامن والجهوزيّة كي لا يتبرَّع المرءُ فقط ببعضِ الشيء، بل أن يبذل ذاته. في  وجه لا–ثقافة الموت التي تعبّر عن ذاتها بالمخدّرات، يتصدّى هكذا الحبُّ الذي لا يبحث عن ذاته بل يتجلّى ثقافةَ حياة، باستعداده، بالضبط، لأن «يُهلك نفسه» من أجل الآخر (را لو 17: 33 وغيرها).

كذلك، نشأت، في الكنيسة الكاثوليكيّة وفي كنائس وجماعاتٍ كنسيّة أخرى، أشكالٌ جديدة من نشاط خدمة المحبّة، وعادت نشاطاتٌ أقدمُ عهداً فظهرت هي أيضاً في انطلاقة متجدّدة. إنها أشكالٌ غالباً ما ينتهي الأمرُ بها إلى عقد رباطٍ ناجحٍ بين التبشير وأعمال المحبّة. إني أرغب في أن أؤكّد بجلاء هنا ما كتبه سلفي العظيم يوحنا بولس الثاني في رسالته العامّة «الاهتمام بالشأن الاجتماعيّ»28، عندما أكّد استعداد الكنيسة الكاثوليكيّة للمساهمة مع منظمات خدمة المحبة في الكنائس والجماعات الأخرى، بما أنَّ الحافزَ الأساسيَّ نفسَه يحثّنا جميعاً، وأنَّ لنا نصب أعيننا الهدفَ ذاته، ألا وهو: أنسنةٌ حقيقيّة تتعرّف في الإنسان على صورة الله، وتريد مساعدته على قضاء حياة تتوافق وتلك الكرامة. وفي سبيل تطورٍ للعالم متناغم، عادت الرسالة الجامعة «ليكونوا واحداً» وأشارت مجدَّداً إلى الضرورة بأن يوحّد المسيحيّون صوتهم والتزامهم «من أجل احترام حقوق الجميع وحاجاتهم، وبالأخصّ الفقراء والمذلولين والذين لا سند لهم»29. أريد أن أعبّر هنا عن فرحي لأن تلك الرغبة وجدت في مجمل العالم رَجعَ صدًى واسعاً، من خلال مبادرات عديدة.

الجانب المميَّز لنشاط خدمة المحبّة في الكنيسة

31. تزايدُ المنظمات المتنوّعة التي تلتزم العمل لصالح الإنسان في مختلف حاجاته نجد له شرحاً، في حقيقة الأمر، في أن واجب محبّة القريب قد حفره الخالق في طبيعة الإنسان نفسها، إلاّ أن هذا التنامي ينجم أيضاً عن حضور المسيحيّة في العالم، فهي تثير على الدوام وتفعّل ذلك الواجب، الذي غالباً ما غشيته ظلمةٌ كثيفةٌ عبر التاريخ. إن إصلاح الوثنيّة الذي حاوله الإمبراطور يوليانس الجاحد ليس سوى مثالٍ أوليّ عن تلك الفعّاليّة. بهذا المعنى، تمتدُّ قوّة المسيحيّة إلى ما أبعد من حدود الإيمان المسيحيّ. لذلك، فإنه من المهمّ جدّاً أن يحافظ نشاط خدمة المحبّة في الكنيسة على كلّ بهائه ولا يذوب في منظمة مشتركة للمساعدة، فيصبح مجرّدَ شكلٍ آخر من أشكالها. فما هي، إذاً، العناصر الأساسيّة التي تؤلّف جوهر المحبّة المسيحيّة والكنسيّة؟

أ) وفقاً للمثال الذي يعطيه مثلُ السامريّ الرحيم، المحبّة المسيحيّة هي قبل الكلّ مجرّدُ جوابٍ عمّا يشكّل، في وضعٍ معيّن، ضرورةً مباشرة: الجياع يجب أن يُسدَّ جوعهم، والعراةُ أن يُكسَوا، والمرضى أن يُعتنى بهم كي يتماثلوا للشفاء، والسجناءُ أن يُؤتى إليهم، إلخ. إن منظمات خدمة المحبّة في الكنيسة، بدءًا بكاريتاس (الأبرشيّة والوطنيّة والدوليّة)، عليها أن تسعى كلَّ جهدها كي تتوفّر الوسائلُ الضروريّة، بالأخصّ الرجالُ والنساءُ الذين يأخذون على عاتقهم مثل تلك المهمّات. في ما يخصّ الخدمة التي تؤدّى إلى المتألّمين، من الضروريّ جدّاً التمتّعُ بكفاءَةٍ مهنيّة: يجب على معالجي المرضى أن ينشَّأوا بطريقة تؤهّلهم للقيام بالخدمة المناسبة في الوقت المناسب، مع الالتزام أيضاً بمتابعة العناية. الكفاءة المهنيّة هي من أولى الضروريات الأساسيّة، لكنها وحدها لا يمكن أن تكفي. لأن الأمر، في الواقع، يتعلّق بكائناتٍ بشريّة، والكائنات البشريّة بحاجة دائماً إلى شيءٍ يسمو على العنايات الصحيحة تقنيّاً. إنهم بحاجة إلى إنسانيّة. إنهم بحاجة إلى عناية تنبع من القلب. الأشخاصُ العاملون في مؤسَّسات الكنيسة لخدمة المحبّة يجب أن يتميَّزوا بأنهم لا يكتفون بأن يؤدّوا بمهارةٍ عملاً مناسباً في حينه، بل أن يتكرّسوا للغير بعناياتٍ تنبع من القلب، بحيث يتمكن الآخرُ بأن يختبر ثراءَ إنسانيّتهم. لذلك، علاوةً على التهيئة المهنيّة، من الضروريّ أن يتلقّن هؤلاءِ الأشخاصُ أيضاً، وبخاصّة، «تنشئةَ القلب»: يجدر بأن يُقادوا إلى اللقاء مع الله في المسيح، الذي يحرّك فيهم الحبَّ ويفتح ذهنهم على الغير، فلا تعود محبتُهم للقريب، من بعدُ، فرضاً، إذا صحَّ التعبير، من الخارج، بل نتيجةٌ نابعةٌ من إيمانهم العامل في الحبّ (را غل 5: 6).

ب) نشاط المحبّة المسيحيّ يجب أن يتمتّع بالاستقلال عن الأحزاب والمذهبيّات. فهو ليس وسيلةً لتبديل العالم بطريقة مذهبيّة، ولا في خدمة استراتيجيّات عالميّة، بل هو إطلاقُ عمل الحبّ، في المكان والزمان المناسبين، الحبِّ الذي يحتاج إليه الإنسان على الدوام. العصرُ الحاضر، بالأخصّ منذ القرن التاسع عشر، سيطرت عليه تيّارات مختلفة من فلسفة التطوّر كان من أكثر أنواعها تطرّفًا الماركسيّة. جزءٌ من الاستراتيجيّة الماركسيّة يقوم على مبدإ الإفقار: فالماركسيّة تؤكّد أن مَن كان في موقع سلطة ظالمة وساعد الإنسان بمبادرات محبّة، يخدم بالفعل ذاك النظام الظالم، مظهراً إيّاه وكأنه يُطاق، إلى حدٍّ ما، على الأقلّ. وهكذا تُلجم الطاقةُ الثوريّة وتُصَدُّ، إذاً، العودةُ إلى عالم أفضل. وبالتالي، تُعارَضُ المحبّةُ وتُهاجَم، باعتبارها أسلوبًا للمحافظة على الوضع الراهن (statu quo). في الحقيقة، إنها لفلسفة لاإنسانيّة. فالإنسان العائشُ في الحاضر يضحَّى به لمولوخ (Moloch) المستقبل – مستقبلٍ يبقى تحقيقُه الفعليُّ مشكوكاً في أمره، على الأقلّ. في الحقيقة، إن أنسنة العالم لا يمكنها أن تعزَّز بالتخلّي، في الوقت الحاضر عن التصرّف بطريقة إنسانيّة. لا يمكن أن نُسهم في بناء عالم أفضل إلاّ بعمل الخير، حالاً وشخصيّاً وبشغف، حيثما يمكن ذلك، وبقطع النظر عن استراتيجيّات ومناهجَ حزبيّة. إن برنامج المسيحيّ – برنامجَ السامريّ الرحيم، برنامجَ يسوع – هو «قلبٌ يرى». هذا القلب يرى أين الحبُّ ضروريٌّ ويعمل بموجب ذلك. بالطبع، إلى طواعيّة الفرد، عندما تأخذ الكنيسة على عاتقها نشاط خدمة المحبّة كمبادرةٍ جماعيّة، يجب أيضاً أن تنضمَّ برامجُ وتوقّعاتٌ ومساهماتٌ مع مؤسَّساتٍ أخرى شبيهة.

ج) علاوةً على ذلك، يجب ألاّ تكون المحبّة وسيلةً في خدمة ما يسمّى اليوم التبشير للاهتداء (prosélytisme). الحبُّ مجانيّ. ولا يمكن أن يُستخدم للبلوغ إلى أهداف أخرى30. وهذا لا يعني مع ذلك أن نشاط المحبّة يجب أن يتجاهل، إذا صحَّ التعبير، الله والمسيح. فالقضيّة هي دوماً قضيّة الإنسان بأكمله. وغالباً بالضبط ما يكون غيابُ الله هو المصدرُ الأعمقُ للعذاب. من يمارس المحبّة باسم الكنيسة لن يعمل أبداً على فرض إيمان الكنيسة على الآخرين. إنه يعرف أن الحقَّ، في نقاوته ومجّانيّته، هو أفضل شهادة نؤدّيها لله الذي نؤمن به والذي يحثّنا على المحبّة. يعرف المسيحيّ، عندما يحين الوقت، أن يتحدَّث عن الله، ويعرف متى يحقّ ألاّ يتحدّث، فلا يدعُ إلاّ الحبَّ يتحدَّث. ويعرف أن الله محبّة (را 1 يو 4: 8)، ويتجلّى حضورُه بالضبط في الأوقات التي لا عملَ آخر فيها يُعمل سوى الحبّ. ويعرف – عودةً منا إلى القضيّة السابقة – أن احتقار الحبّ هو احتقارٌ لله وللإنسان ومحاولةٌ للتخلّي عن الله. إذاً، إن أفضل دفاع عن الله والإنسان يكمن حقّاً في الحبّ. إن مهمّة منظمات خدمة المحبّة في الكنيسة هي أن توطّد مثل هذا الوعي في أعضائها، بحيث يصبحون بأعمالهم – كما بأقوالهم وصمتهم ومثالهم – شهوداً للمسيح ذوي مصداقيّة.

المسؤولون عن عمل الكنيسة في خدمة المحبّة

32. أخيراً، يجب أيضاً أن نلفت النظر إلى المسؤولين عن عمل الكنيسة في خدمة المحبّة، السابقِ ذكرهم. في التأملات السابقة، تبيّن بجلاء، من الآن فصاعداً، أن المسؤول الحقيقيّ في مختلف المنظمات الكاثوليكيّة القائمة بخدمةِ محبّةٍ هو الكنيسةُ نفسُها – وذلك، على جميع الأصعدة، بدءًا من الرعايا، مروراً بالكنائس الخاصّة، بلوغاً إلى الكنيسة الجامعة. لذلك، كان من أفضل الأمور مناسبةً أن يُنشىءَ سلفي المكرَّم بولس السادس المجلس الحبريّ «قلبٌ واحد»(Cor unum) كمرجعيّة في الكرسيّ الرسوليّ مسؤولةٍ عن التوجيه والتنسيق بين المنظمات وأنشطة المحبّة التي تعزّزها الكنيسة الجامعة. فينجم، إذاً، عن هيكليّة الكنيسة الأسقفيّة، أن المطارنة، في الكنائس الخاصّة، بصفتهم خلفاء الرسل، قد أوكلت إليهم المسؤولية الأولى، اليوم أيضاً، في تفعيل البرنامج المشار إليه في سفر أعمال الرسل (را 2: 42-44): إن الكنيسة، بصفتها أسرةَ الله، عليها أن تكون اليومَ كالأمس، مكاناً للتعاون المتبادل، وفي الوقت عينه، مكاناً للاستعداد لأن تخدم أيضاً الأشخاص، الذين ليسوا منها، والمحتاجين إلى عون. في أثناء رتبة السيامة الأسقفيّة، تسبق الوقت المعيَّن للتكريس بضعةُ أسئلة تُطرح على المرشَّح، حيث تُذكر عناصرُ مهمّته الجوهريّة، وحيثُ يذكَّر بواجب خدمته المستقبليّة. في هذا الإطار، يعدُ المتقدّمُ إلى السيامة، بصراحة ووضوح، بأن يكون، باسم الربّ، حسنَ الاستقبال، رحيماً نحو الفقراء ونحو جميع المحتاجين إلى سند ومعونة31. في القوانين المتعلّقة بالخدمة الأسقفيّة، لا تدرس«مجموعة الحقّ القانونيّ»، بصراحةٍ، المحبّة وكأنها ميدانٌ مميّزٌ للنشاط الأسقفيّ، لكنها تعرض فقط، بطريقة عامّة، مهمّة الأسقف القائمة على تنسيق مختلف أعمال الرسالة مع الحفاظ على طابعها الخاصّ32. إلاّ أن «دليل خدمة الأساقفة الراعويّة» قد تعمّق حديثاً، بطريقة أكثر واقعيّة، في واجب المحبّة، بصفتها مهمّةً جوهريّةً من مهمّات الكنيسة الجامعة، ومن مهمّات الأسقف في أبرشيّته33، وأشار إلى أن ممارسة المحبّة هي عمل الكنيسة بصفتها تلكَ، وأنها تشكّل، هي أيضاً، جزءًا من جوهر رسالتها الأصليّة، بالمستوى نفسه الذي تتّسم به خدمة الكلمة والأسرار34.

33. بشأن المساعدين الذين يتمّمون حسيّاً عمل المحبّة في الكنيسة، فلقد سبقَ وقيل المهمّ: يجب ألاّ يستوحوا خدمتهم من مذهبيّات إصلاح العالم، بل أن يكونوا، إذاً، أشخاصاً أثار مشاعرَهم، قبل الكلّ، حبُّ المسيح، أشخاصاً استولى المسيحُ على قلبهم بحبّه، موقظاً فيه حبّ القريب. المقياس الذي يُلهمُ عملهم يجب أن يكون التأكيدُ الوارد في الرسالة الثانية إلى الكورنثيّيين: «إن محبّة المسيح تحثّنا» (5: 14). إن الوعيَ بأنَّ اللهَ بذل، في المسيح، نفسَه من أجلنا حتى الموت، يجب أن يحملنا على ألاّ نحيا من بعدُ لذواتنا، لكن من أجله ومعه لأجل الآخرين. من أحبَّ المسيح أحبَّ الكنيسة، وأرادها أن تكون على الدوام أكثر تعبيراً وأداةً للحبّ المنبعث منه. إن المساهمَ في أيّ منظمة كاثوليكيّة لخدمة المحبة يبغي أن يعمل مع الكنيسة، ومن ثمَّ مع الأسقف، كي ينتشر حبُّ الله في العالم. وبالمشاركة في وضع الحبّ موضع التنفيذ من قِبَل الكنيسة، يريد أن يكون شاهداً لله وللمسيح؛ ولذلك، بالضبط، يريد أن يعمل الخيرَ للناس مجّاناً.

34. إن الانفتاح الداخليَّ على البعد الجامع (الكاثوليكي) للكنيسة لا يمكن إلاّ أن يهيّىءَ المساعد كي يعيش بتناغمٍ مع المنظمات الأخرى لخدمة مختلف أشكال الحاجة؛ إلاّ أن هذا يجب أن يتحقّق في احترام الجانب المميَّز للخدمة التي طلبها المسيحُ من تلاميذه. في نشيده عن المحبّة (را 1 كو 13) يعلّمنا القديس بولس أن المحبّة هي على الدوام أكثر من نشاط عاديّ: «ولو بذلتُ جميعَ أموالي إحساناً للجياع، ولو أسلمتُ جسدي لأُحرق، ولم تكن فيّ المحبّة، فلا أنتفع شيئاً». هذا النشيد يجب أن يكون «الشرعة العظمى» (Magna Carta) لمجمل الخدمة الكنسيّة. ففيه اختُصرت كلُّ الأفكار التي توسعتُ فيها عن الحبّ، على مدى هذه الرسالة الجامعة. يبقى العملُ الحسيُّ ناقصاً، إذا لم يُلمس فيه الحبُّ للإنسان، حبٌّ يتغذّى من لقاءِ المسيح. إن المشاركة العميقة والشخصيّة في حاجات الغير وعذاباتهم، تصبح هكذا طريقةً للمشاركة معه: ولكي لا يُذِلَّ العطاءُ الآخر، يجب أن أعطيَه ليس فقط شيئاً مني، بل أن أبذلَ أنا ذاتي، يجب أن أكون حاضراً في العطاء، بصفتي إنساناً.

35. هذه الطريقة الحقّة في الخدمة تجعل من القائم بها متواضعاً. فهو لا يتولّى موقف تفوّقٍ إزاء الآخر، حتى إذا كان وضع هذا الأخير حقيراً، في الوقت الراهن. لقد أخذ المسيحُ المحلَّ الأخيرَ في العالم – الصليب – وبالضبط، بواسطة ذلك التواضع الفائق، افتدانا، وما زال على الدوام يساعدنا. من يستطيعُ المساعدة، يقرُّ بأنه هو أيضاً حقّاً يُساعد بهذه الطريقة. القدرة على المساعدة ليست لا استحقاقاً منه ولا موضع كبرياء. هذه المهمّة هي نعمة. بقدر ما يعمل المرءُ من أجل الآخرين، بالقدر عينه يفقه ويتبنّى كلامَ المسيح: «إنّا عبيدٌ بطّالون» (لو 17: 10). إنه يقرّ، في الواقع، بأنه يعمل لا من منطلق تفوّق أو فعّالية شخصيّة أعظم، بل لأن الربَّ هو المعطي. وأحياناً، إن المزيدَ من الحاجات وحدودَ عمله الخاصّ يمكن أن تعرّضه لتجربة اليأس. فحينئذٍ سيأتيه العون حقّاً من يقينه بأنه ليس، في النهاية، سوى أداةٍ بين يدي الربّ؛ فيتحرّر هكذا من الادّعاء بأن عليه أن يحقّق شخصيّاً ومنفرداً التحسين الضروريّ للعالم. وبتواضع، يعمل المرءُ ما يمكنه عمله، وبتواضع يولي أمر الباقي للربّ. الله هو الذي يسوسُ العالم لا نحن. نحن نقدّم له فقط خدماتنا، بقدر الإمكان، وعلى قدر ما يزوّدنا به من قوّة. إلاّ أن عملَ الممكن، وبالقوّة المتوفّرة لدينا، تلك هي المهمّة التي تحفظ خادمَ الربّ الأمين في حركة دائمة: «إن محبّة المسيح تحثّنا» (2 كو 5: 14).

36. إن اختبار ضخامة الحاجات يمكنه، من جهة، أن يدفع بنا نحو مذهبيّة تدّعي أنها تنفّذ هي الآن، ما لا يحصل عليه، على ما يظهر، اللهُ نفسُه الذي يسوسُ العالم، ألا وهو: الحلُّ الشاملُ لجميع المعضلات. من جهة أخرى، يمكن ذلك الاختبار أن يصبح تجربة للخلود إلى الخمول، بالاستناد إلى الشعور بأن لا شيء يمكن فعله، مهما كان الأمر. في هذا الوضع، يشكل الاتصالُ الحيُّ بالمسيح السندَ الحاسم للبقاء في سواء السبيل: عدمُ السقوط في كبرياءٍ يحتقر الإنسان، كبرياءٍ، في الواقع، لا يبني، بل بالأحرى يهدم؛ وعدمُ الاستسلام للخنوع الذي يعوقنا عن الانقياد للحبّ، وبالتالي، عن خدمة الإنسان. فتصبح الصلاةُ هنا إلحاحاً كليَّ الواقعيّة، لأنها وسيلةٌ كي نستمدَّ على الدوام مجدّداً، قوّةَ المسيح. من يصلّي لا يضيع وقته، حتى إذا بان في الوضع إلحاحٌ حقيقيٌّ وكأنه يستدعي فقط العمل. التقوى لا تُضعف مكافحة الفقر أو حتى مكافحةَ بؤس القريب. تمثّل الطوباويّة تريزا دي كالكوتا مثالاً كليّ الوضوح بأن الوقتَ المكرَّسَ لله في الصلاة لا يؤذي فعّاليّة الحبّ نحو القريب ونشاطه فحسب، بل إنه هو حقّاً مصدرُه الذي لا ينضب. في الرسالة، بمناسبة صوم العام 1996، كتبت الطوباويّة إلى مساعديها العلمانيّين: «إنّا بحاجة إلى هذه الصلة الوثيقة مع الله في حياتنا اليوميّة. وكيف الحصول عليها؟ – بواسطة الصلاة».

37. حان الوقت كي نعود ونؤكد أهميّة الصلاة إزاء النشاطيّة والدنيويّة اللتين تسيطران على العديد من المسيحيّين المنخرطين في عمل خدمة المحبّة. من الأكيد أن المسيحيّ المصلّي لا يدّعي تبديل خطط الله ولا أن يصلح ما سبق اللهُ ورآه. إنه يسعى بالأحرى للقاء أبي يسوع المسيح، ضارعاً إليه بأن يحلَّ فيه وفي عمله بمعونة روحه. إن الألفة مع الله في شخصه والاستسلام لمشيئته يحولان دون انحطاط الإنسان، وتخلّصانه من سجن عقائدَ تعصبيّة وإرهابيّة. إن موقفاً دينيّاً أصيلاً يجنّب الإنسانَ من أن ينصّب نفسه حكماً على الله، متّهماً إيّاه بأنه يسمح بالبؤس دون الشعور بأيّ رأفة على خلائقه. لكن المدّعي بأنه يحاربُ الله دفاعاً منه عن منفعة الإنسان، فعلى من يستطيع الاتكال عندما يظهر العملُ الإنسانيُّ عاجزاً؟

38. من الأكيد أن أيوّبَ يستطيع التفجّعَ أمام الله بسبب العذابِ غيرِ المدرَك وغيرِ المبرَّر ظاهريّاً السائدِ في العالم. فأيّوب تحدّث هكذا عن عذابه: «من لي بأن أعلمَ وأجدَه فأَتقدَّم إلى منصبه… وأعرفَ كلماتِ إجابتة وأتفهَّمَ ما يقولُ لي. أبعظمة جبروته يحاجّني؟… لذلك أتأمّل فأتفزَّع منه. أتحيّرُ بحضرته. فإنّ الله قد أوهن قلبي والقديرَ روّعني» (23: 3، 5-6، 15-16). غالباً ما لا نُعطى أن نعرف السبب الذي لأجله يضبط الله ذراعه بدلاً من أن يتدخّل. على كلِّ حال، إنه لا يمنعنا من أن نصرخ كيسوعَ على الصليب: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» (متى 27: 46). في حوار صلاة، علينا أن نبقى أمام وجهه مع هذا السؤال: «حتى متى، أيها السيدُ القدّوسُ والحقُّ، لا تقضي؟» (رؤ 6: 10). هو ذا القديس أوغسطينس يعطي لعذابنا جواب الإيمان: «إذا فهمتَ الله، فليس إذاً هو الله»35. لا يستطيع احتجاجُنا أن يتحدّى الله، أو أن يلمح إلى أن فيه خطأً وضعفاً ولامبالاة. مستحيلٌ على المؤمن أن يفكّر في أن الله عاجزٌ أو «نائم» (1مل 18: 27). أو بالأحرى، صحيحٌ أنّ حتى صراخنا، كالصراخ على شفتي يسوع وهو على الصليب، هو الوسيلة القصوى والأعمق كي نؤكد إيماننا بقدرته المطلقة. أجل، ما زال المسيحيّون يؤمنون بـ «لطف الله ومحبّته للبشر» (تي 3: 4)، على الرغم من جميع عدم تفهّم العالم المحيط بهم وجميع الالتباسات. وفيما هم غائصون، كسائر الناس أجمعين، في التشعّب المأسويّ لأحداث التاريخ، يظلّون مع ذلك ثابتين في اليقين بأن الله أبٌ يحبّنا، حتى إذا كنّا نعجز عن إدراك صمته.

39. الإيمان والرجاء والمحبّة تتواءَم. يتأصّل الرجاءُ عمليّاً في فضيلة الصبر، الذي لا ينعدم في الخير ولا حتى إزاء فشل ظاهر، وفي فضيلة التواضع، الذي يقبل سرَّ الله ويوليه الثقة حتى في الظلمة. الإيمانُ يُظهر لنا الله الذي أعطانا ابنه ويثير فينا هكذا اليقين الظافر بأنه لصحيح التأكيد: إن الله محبّة. بهذه الطريقة يحوّل الإيمان عدم صبرنا وشكوكنا إلى رجاءٍ أكيدٍ بأن الله يمسك العالم بين يديه، وأنه يغلب، على الرغم من الظلمات جميعها، كما يوحي بذلك سفر الرؤيا في النهاية، بطريقة ساطعة الضياء، من خلال صوَره المؤثّرة. إن الإيمان، الذي يعي حبَّ الله المتجلّي في قلب يسوعَ المطعونِ على الصليب، يبعث بدوره على الحبّ. إنه النورُ – وبالحقيقة النورُ الوحيد – الذي ينير بلا انقطاع مجدَّداً عالماً يغمره الظلام، والذي يهبنا الشجاعة فنحيا ونعمل. الحبُّ ممكن، وبوسعنا أن نضعه موضع التنفيذ، لأنّا مخلوقون على صورة الله. بهذه الرسالة العامة الحاضرة، هوذا ما أريد أن أدعوكم إليه: ان نحيا الحبَّ ونشعَّ، بهذه الطريقة، نورَ الله على العالم.

 خـاتـمـة

40. لنتأمَّلنَّ أخيراً القديسين، أولئك الذين مارسوا المحبّة بطريقة مثاليّة. يتّجه فكرُنا بالأخصّ الى القديس مرتينوس، أسقف تور (Tours)(†397)، الذي كان قبلاً جنديّاً، ثم أصبح ناسكاً فأسقفاً: إنه يُظهر، على غرار إيقونة تقريباً، القيمة التي لا بديل لها لشهادة المحبّة الفرديّة. عند أبواب أميان (Amiens)، يتقاسم مرتينوس رداءَه مع فقير: فظهر له يسوعُ نفسُه، ليلاً، في حُلم مكتسياً ذلك الرداء، كي يؤكد القيمة الدائمة لكلام الإنجيل: «كنتُ عرياناً فكسوتموني… إنّ كلَّ ما صنعتموه إلى واحدٍ من إخوتي هؤلاء، إلى واحدٍ من الأصاغر، فإليّ قد صنعتموه» (متى 25: 36، 40)36. في تاريخ الكنيسة، كم يمكننا أن نذكر من شهاداتٍ للمحبّة أخرى! تُظهر الحركةُ النسكيّة كلّها، منذ مبادئها مع القديس أنطونيوس، الأباتي (†356)، ممارسةً عظيمةُ لخدمة المحبّة نحو القريب. ففي «الوجه إلى الوجه» مع الله المحبّة، يشعر الناسكُ بالضرورة الملحّة كي يحوّل حياته كلَّها خدمةً للقريب، علاوةً على خدمة الله. يمكن أن نشرح هكذا الأبنية الكبرى للاستقبال والمساعدة والعنايات التي أُنشئت إلى جانب الأديار. وهذا يشرح أيضاً مبادرات الترقية الإنسانيّة والتنشئة المسيحيّة العظيمة، المكرَّسة قبل الكلّ للأكثر فقراً، الذين أخذتهم على عاتقها أولاً، الرهبناتُ النسكيّة والمتسوّلة، ثمَّ مختلفُ المؤسَّسات الدينيّة للرجال والنساء، وذلك على مدى تاريخ الكنيسة. إنّ قدّيسين من أمثال فرنسيس الأسيزي، وإغناطيوس دي لوَيّولا، ويوحنا الله، وكميل دي ليلّي، ومنصور دي بول، ولويز دي ماريّاك، وجوزف ب. كوتولينغو، ويوحنا بوسكو، ولويس أوريون، وتريزا دي كالكوتا – ونقتصر على هذه الأسماء – ما زالوا أمثلة باهرة للمحبّة الاجتماعيّة في خدمة جميع الناس ذوي الإرادة الصالحة. القدّيسون هم حاملو النور الحقيقيّون في التاريخ، لأنهم رجالُ ونساءُ إيمان ورجاءٍ ومحبّة.

41. بين القديّسين، تحتلُّ مريم المقام الأسمى، مريمُ أمُّ الربّ ومرآة كلّ قداسة. في إنجيل لوقا، نراها تلتزم خدمة المحبّة نحو نسيبتها أليصابات، فتمكث عندها «نحو ثلاثة أشهر» (1: 56)، كي تخدمها في المرحلة الأخيرة من حبَلها. فقالت بمناسبة تلك الزيارة: «تعظم نفسي الربّ» (لو 1: 46). إنها تعبّر هكذا عن كلِّ منهج حياتها: ألاّ تضع ذاتها في الوسط، لكن أن تخلي المكانَ لله، تلاقيه سواء أكان في الصلاة أم في خدمة القريب – حينئذٍ فقط يصبح العالمُ صالحاً. مريمُ عظيمةٌ لأنها بالضبط لا تريد سوى أن تكون أمةً للربّ (را لو1: 38، 48). تعرف أنها تُسهم في خلاص العالم، ليس بتتميم عملها، لكن فقط بوضع ذاتها كليّاً في تصرّف مبادرات الله. إنها امرأة رجاء: فقط لأنها تؤمن بوعود الله وتنتظر خلاص إسرائيل؛ يمكن الملاكُ أن يأتيَ إليها ويدعوَها إلى الخدمة الحاسمة لتنفيذ تلك الوعود. إنها امرأة إيمان: «طوبى للتي آمنت»، قالت لها أليصابات (لو 1: 45). نشيدُ «تعظّم نفسي الربّ…» (Magnificat) – صورةٌ لنفسها، إذا صحّ التعبير – موشّى كليّاً بخيوطٍ من الكتاب المقدَّس، خيوط مستلّةٍ من كلام الله. فيتجلّى لنا هكذا أن مريم، في كلام الله، هي حقّاً في بيتها، تخرج منه وتدخل إليه، بطبعيّة فائقة. إنها تتكلّم وتفكّر بواسطة كلام الله؛ كلام الله يصبح كلامَها، وكلامُها ينبع من كلام الله. علاوةً على ذلك، يظهر هكذا أن أفكارها تتناسق وكلامَ الله، وأن إرادتها تقوم على أن تريد مع الله. ولمّا كان كلامُ الله نافذاً عميقاً في ذاتها، أمكن أن تصبح أمَّ الكلمة المتجسّد. أخيراً، مريمُ امرأةٌ تحبّ. كيف يمكن أن يكون غيرُ ذلك؟ كمؤمنةٍ تفكر، في إيمانها، بأفكار الله، وتريد مع إرادة الله، لا يمكن إلاّ أن تكونَ امرأةً تحبّ. إنّا نشعر بذلك من خلال حركاتها الصامتة، التي تستند إليها رواياتُ أناجيل الطفولة. نرى محبتها في اللطف الذي تتحلّى به في قانا فتشعر بحَرج العروسَين وتخبر به يسوع. نراه في التواضع الذي به تقبل بأن تُهجَر في فترة حياة يسوعَ العلنيّة، عارفةً أن ابنها يجب أن يؤسّس أسرةً جديدةً، وأن ساعةَ أمّه سوف تأتي فقط ساعةً الصليب التي ستكون ساعةَ يسوع الحقيقيّة (را يو2: 4؛ 13: 1). حينئذٍ، بعد أن يهرب التلاميذ ستلبث هي تحت الصليب (را يو9: 25-27)؛ في ما بعد، ساعةَ العنصرة، سوف يجتمع التلاميذ حولها منتظرين الروح القدس (را أع1: 14).

42. سيرة القدّيسين لا تحوي فقط سيرة حياتهم الأرضيّة، بل أيضاً حياتَهم وعملَهم في الله بعد مماتهم. عند القدّيسين يصبح من الواضح أنَّ من يسير نحو الله لا يبتعد عن البشر، بل على العكس من ذلك يصبح حقّاً قريباً منهم. ولا نرى ذلك أحسن ممّا نراه في مريم. قولُ المصلوب للتلميذ – يوحنا، ومن خلاله، لجميع تلاميذ يسوع: «هي ذي أمُّك» (يو19: 27) – أصبح، على مرِّ الأجيال، حقيقة تأكّدت على الدوام. في الواقع، أصبحت مريمُ أمّ    َ جميع المؤمنين. فنحو حنانها الوالديّ، كما نحو طهارتها وجمالها البتولييَّين يتّجه الناس في كلّ الأزمان وفي كلِّ أرجاء العالم، في حاجاتهم وآمالهم، في أفراحهم وعذاباتهم، في وحدتهم كما في المقاسمة الجماعيّة أيضاً. ويختبرون، بدون انقطاع، هبة حنانها، والمحبّة التي لا تنضب النابعة من أعمق أعماق قلبها. إنّ ما يُهدى إليها من شهادات عرفان الجميل في كلِّ الأقطار وكلِّ الثقافات يعبِّر عن الإقرار بذلك الحبّ الطاهر الذي لا يَنشدُ ذاته، بل يريد الخيرَ فقط. ويعبّر، كذلك، تعبّدُ المؤمنين عن الحدْس الأكيد الذي يُلهم طريقةً تجعل ذلك الحبَّ ممكناً: وذلك، بفضل أوثق اتحادٍ مع الله، مكّنها من الاستسلام كليّاً كي يغمرها – وهذا شرطٌ يسمح لمن شرب من ينبوع حبِّ الله بأن يُصبح هو نفسه ينبوعاً «تفيضُ منه أنهار ماءٍ حيّ» (يو7: 38). مريمُ، العذراءُ، الأمُّ، تبيّن لنا ما هو الحبّ، ومن أين ينبع، وقوّتَه الدائمةَ التجدّد. إليها نعهد بالكنيسة وبرسالتها في خدمة الحبّ:

يا قدّيسةُ مريم، يا والدةَ الله،

لقد منحتِ العالمَ النورَ الحقيقيّ،

يسوعَ، ابنكِ – ابنِ الله.

لقد استسلمتِ كليّاً

إلى صوت الله

فأصبحتِ هكذا ينبوعَ

الحنانِ الفائضِ منه.

أرِينا يسوع. قودينا إليه.

علّمينا أن نعرفَه ونحبَّه،

كي نستطيع، نحن أيضاً، 

أن نصيرَ قادرين على حبٍّ حقيقي، 

ونكون ينابيعَ ماءٍ حيّ

وسط عالَمٍ ظمآن.

أعطي في رومة، بالقرب من القديس بطرس، في 25 كانون الأول 2005، في الاحتفال بميلاد الربّ، في السنة الأولى لحبريّتي. 

† البابا بندكتوس السادس عشر

شارك مع الأصدقاء!

Facebook
WhatsApp
Email
Twitter
Telegram