إلى مؤمني الشرق الأوسط الكاثوليك – 2006 – البابا بندكتس السادس عشر

وجّه قداسة الحبر الاعظم البابا بنديكتوس السادس عشر 

رسالة الى مؤمني الشرق الأوسط الكاثوليك في 21 كانون الأول 2006،

وهذه ترجمتها

Click to view full size image

أيها الأخوة الاجلاء في الاسقفية والكهنوت ، 

والاخوة والاخوات الاعزاء الكاثوليك في منطقة الشرق الاوسط،

       إننا ، وقد غمرنا نور الميلاد ، نتأمل بحضور الكلمة الذي نصب خيمته فيما بيننا. فهو “النور الذي يسطع في الظلمات” والذي ” أعطانا القدرة لنصبح أبناء الله” (1) . في هذه الأيام الملأى بمعاني الإيمان ، إنا نرغب في أن نوجّه إليكم فكرة خاصة ، أيها الاخوة والاخوات الكاثوليك، انتم الذين تعيشون في مناطق الشرق الأوسط : وهي اننا نشعر روحيا بأننا حاضرون في كل كنيسة من كنائسكم بخاصة ، حتى أصغرها ، لنشاطركم رغبتنا الحارّة   والرجاء اللذين تنتظرون معهما الرب يسوع أمير السلام. ليبلغكم جميعا التمني الكتابي    الذي تبنّاه القديس فرنسيس الاسيزي بقوله : ليمنحكم الرب السلام. 

       إني اتلفت بعاطفة المحبة إلى الجماعات التي تشعر بأنها  “قطعان صغيرة” (2) ، وهي كذلك إمّا لأن عدد الأخوة والأخوات قد تناقص، وإمّا لأنهم غارقون في مجتمعات مؤلّفة في غالبيتها من مؤمني أديان اخرى ، وإمّا لأن الظروف قضت بأن ينتموا إلى بعض امم تعيش في صعوبات كثيرة وحرمان . واني افكّر خاصة بالبلدان التي يطبعها طابع التوترات القوية ، وبخاصة بأولئك الذين يخضعون لمظاهر عنف قاس . وهذا كله يتسبّب بخراب كبير يطال دونما شفقة الاشخاص العزّل والأبرياء . والأنباء اليومية التي ترد من الشرق الأوسط ، تشير إلى تزايد عدد الحالات المأساوية التي يبدو أنها لا حلّ لها . وهي أحداث ، بالنسبة إلى الذين تتناولهم مباشرة ، لتثير طبيعيا احتجاجا وغضبا وتعدّ المغلوب لرغبة في الانتقام وطلب الثأر. ونعرف ان هذه ليست بمشاعر مسيحية . والانسياق إليها يجعلنا باطنا قساة ، وطلاّب ثأر، أبعد ما نكون عن هذه العذوبة والوداعة التي جعل يسوع المسيح نفسه مثالا لها (3) . وهكذا تضيع فرصة تقديم مساهمة مسيحية صادقة لحلّ هذه المشاكل الخطيرة التي يعاني منها زمننا . وليس من الحكمة في شيء ، خاصة في هذا الوقت ، قضاء الوقت بالتساؤل لمعرفة من تألّم أكثر او ان نريد ان نقدّم عدد الاساءات التي نالتنا ، بالقيام بجردة عن الأسباب التي تغلّب ما لنا من حجج خاصة . 

       هذا ما حدث غالبا في الماضي، وكانت نتائجه حقا مخيبة للآمال. وفي الواقع ان الآلام مشتركة بين الجميع ، وعندما يتألم أحدهم ، عليه قبل كل ان يشعر بالميل إلى فهم كيف يتألم الآخر الذي يجد نفسه في وضع مماثل. والحوار الصبور الوديع، القائم على الاصغاء المتبادل والرغبة في تفهم وضع الآخر، قد أتى بثماره الطيّبة في الكثير من بلدان اخرى كان قد اجتاحها العنف سابقا والثأر . ولا يمكن القليل من الثقة بانسانية الآخر، خاصة اذا كان يتألـم ، إلاّ ان يعطي نتائج طيبة. وهناك جهات مختلفة ، تقول بسلطة ادبية ، بهذا الاستعداد الداخلي . 

       إنّا ، في زمن الميلاد هذا ، نفكر باستمرار ، وبقلق عميق، بالمجموعات الكاثوليكية في بلدانكم . ان النجم الذي رآه المجوس، فقادهم إلى لقاء الطفل ومريم امه (4) ، هو يحملنا إلى ارضكم . لقد قدّم يسوع حياته على ارض الشرق ، لكي يجعل من الاثنين شعبا واحدا (5)، فهدم الجدار الفاصل: جدار الحقد . اذذاك قال لتلاميذه :” اذهبوا الى العالم كله ، نادوا بالانجيل إلى جميع الخلائق” (6). اذذاك لأول مرة ، أُطلِقتْ تسمية المسيحيين على تلاميذ المعلم (7) . اذذاك وُلدت كنيسة الآباء الكبار وتطورت وازدهرت تقاليد مختلفة وحية وطقسية غنية . 

       ايها الاخوة والاخوات ، ورثة هذه التقاليد ، إني أعرب بمشاعر المحبة ، عن قربي الشخصي منكم في الوضع الانساني الغير المستقر، والألم اليومي، والخوف والأمل الذي انتم تعيشون فيه . إنّا نردّد ، قبل كل ، على مسامع جماعاتكم ، كلام المخلّص:” “لا تخف ، ايها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سرّ بأن يعطيكم الملكوت ” (8) . بإمكانكم ان تعتمدوا على تضامننا معكم التام في هذه الظروف. وإنا لموقنون ايضا انه بمقدورنا ان نكون ناطقين باسم مشاركة الكنيسة الجامعة . ويجب ألاّ يشعر اي مؤمن في الشرق الاوسط ، هو والجماعة التي ينتمي إليها ، أنه وحده ، او هو متروك لذاته . إن كنائسكم ترافقها ، في طريقها الشاق، صلاة كنائس العالم كله الخاصة ، ومساندة محبتها ، على مثال الكنيسة الناشئة وبروحها (9) . 

       في هذا الوقت الحاضر الذي يتميّز بنور قليل وظلام كثيف ، من اسباب تعزيتنا واملنا ان نعرف ان جماعات الشرق الاوسط المسيحية ، التي فوق آلامها المبرّحة ، ما زالت جماعات حيّة ، ناشطة . ونعرف ايضا انها عازمة على الشهادة لايمانها ، بما لها من هويّة خاصة في المجتمعات المحيطة بها . وهذه الجماعات ترغب في ان تسهم ، بطريقة بنّاءة ، في التخفيف من حاجات مجتمعاتهم الملحّة ، ومنطقتهم . ان القديس بطرس ، في اول كتاب له إلى جماعات فقيرة ومهمّشة في مجتمعات زمنه ، التي كانت مضطهدة ، لم يتردّ في القول لهم ان وضعهم الصعب ، يجب ان يعتبروه نعمة (10) . 

       وفي الواقع ، أفليس نعمة ان نتمكّن من المشاركة في آلام المسيح ، بانضمامنا إلى العمل الذي معه أخذ على عاتقه خطايانا ليكفّر عنها ؟ على الجماعات الكاثوليكية التي تعيش غالبا حالات صعبة، ان تعي القوة القديرة التي تأتي من آلامها التي تقبلها بمحبة . وهذه آلام بامكانها ان تغيّر قلب الآخر وقلب العالم . إنا اذن نشجّع كلا منكم ان يواصل بثبات طريقه الخاص ، بالاعتماد على وعيه “الثمن” الذي افتداه به المسيح (11) . لا شكّ في أن استجابة الدعوة المسيحية الخاصة ، إنما هي شاقة كثيرا لأعضاء جماعات هي أقلية . وغالبا ما تكون عدديا لا قيمة لها في المجتمعات التي تجد نفسها غارقة فيها . وبعد، قد يكون النور خافتا في البيت ، يقول بطاركتكم في رسالتهم الراعوية سنة 1992 ، لكنه ينير كل البيت. والملح عنصر صغير في الطعام لكنه هو ما يطيّبه. والخميرة صغيرة في العجين، ولكنها هي التي تخمّره وتعدّه ليكون خبزا” . إنا نتبنّى هذا الكلام ، واشجّع الرعاة الكاثوليك على الاستمرار في خدمتهم ، باهتمامهم بالوحدة فيما بينهم ، وببقائهم دائما بالقرب من قطيعهم . وليعرفوا ان البابا يشاطرهم همومهم وآمالهم ، وما يضمّنوه رسائلهم السنوية من إرشادات وفي قيامهم اليومي بواجباتهم المقدسة. والبابا يشجّعهم في ما يبذلون من جهد ليساندوا ويقوّوا في الايمان ، والرجاء والمحبة ، القطيع الموكول إليهم . وان حضور جماعاتهم في مختلف بلدان المنطقة ، يشكّل فيما يشكل عنصرا بإمكانه ان يعزّز كثيرا الحوار المسكوني. 

       منذ زمن بعيد ، نراقب كيف ان العديد من المسيحيين يغادرون الشرق الاوسط بحيث ان الاراضي المقدسة قد تتحول إلى منطقة أثرية ، لا حياة كنسية فيها . لا شك في ان الاوضاع الجغرافية والسياسية الخطرة ، والنزاعات الثقافية ، والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية ، فضلا عن النزعة العدائية التي تريد ان تبرّر ذاتها بأسباب اجتماعية او ديـنية ، ان كل هذا يجعل بقاء الاقليات صعبا ، وهكذا ، يقع كثير من المسيحيين في تجربة الاغتراب. وهذا ضرر قد لا يكون في المستطاع اصلاحه . وبعد، لا يمكننا ان ننسى ان العيش معا آلاما مشتركة ، يكون له فعل المرهم على الجراح ، ويحمل على التفكير بالمصالحة والقيام بأعمال سلامية. وهذا ما يولّد حوارا عائليا واخويا بإمكانه مع الزمن ونعمة الروح ان يتحوّل حوارا اوسع على الصعيد الثقافي ، والاجتماعي وأيضا السياسي. وبعد ، فالمؤمن يعرف ان يعتمد على رجاء لا يخيّب ، لأنه يقوم على حضور القائم من القبر. منه يأتي الالتزام في الايمان والفاعلية في المحبة (12) . في المصاعب الأشد إيلاماً ، يشهد الرجاء المسيحي ان الاستسلام والتشاؤم هما الخطر الأكبر الذي يفخّخ الجواب على الدعوة النابعة من العماد ومن هنا يتولّد الاحباط ، والخوف ، والشفقة على الذات ، والقدرية ، والهروب. 

       في الساعة الحاضرة ، يُطلب من المسيحيين ان يكونوا شجعانا ، مصمّمين بقوة روح المسيح ، وان يعرفوا ان يعتمدوا على قرب اخوانهم بالايمان منهم ، المنتشرين في العالم. ان بولس ، يوم كتب إلى الرومانيين ، أعلن بوضوح انه ما من شبه بين الآلام التي نقاسيها على الارض والمجد الذي ينتظرنا (13) . وكتب مار بطرس ايضا في رسالته الاولى يذكّر بأننا نحن معشر المسيحيين ، ولو أصابتنا محن مختلفة لنا أمل أكبر يملأ قلوبنا فرحا (14) . ويؤكّد بولس في رسالته الثانية الى اهل كورنتس كل التأكيد ان “الله إله كل تعزية… يعزّينا في ضيقاتنا، لكي نتمكّن بما يجود الله علينا من تعزية ، من ان نعزّي الآخرين في ما يعرض لهم من ضيق” (15). وانا نعرف جيدا ان التعزية التي وعد بها الروح ، لا تقتصر فقط على الكلام الجيّد ، بل انها تُتَرجم بسعة الروح والقلب. وهكذا يمكننا ان نرى وضعنا في الاطار الارحب ، إطار الخليقة كلها التي لتتمخّض بانتظار تجلّي أبناء الله”(16) . وبهذا المنظار، يستطيع كل منا ان يفكّر اكثر بآلام الاخر أكثر من آلامه الخاصة ، وبالآلام المشتركة أكثر من الآلام الذاتية، وان يهتمّ بأن يعمل بعض الشيء لأن الآخر او الآخرين يفكّرون بأن آلامهم يفهمها غيرهم ويقبلها ، ويرغب ان يداويها ، قدر المستطاع. 

       عبركم ، ايها الاخوة والاخوات الاعزاء، نودّ أن نتوجّه إلى مواطنيكم ، رجالا ونسـاء ، من مختلف الطوائف المسيحية، ومختلف الأديان ، وإلى كل الذي يبحثون باخلاص عن طريق الاستماع المتبادل والحوار المخلص عن السلام، والعدالة والتضامن، نقول للجمـيع : اثبتوا بشجاعة وثقة ! ونطلب من جميع المسؤولين عن مصير الشعوب ، احساسا وانتباها ، وقربا حسيا ، لتخطي الحسابات والاستراتيجيات لكي ينهض مجتمع أكثر عدالة ، وسلاما ، واحتراما حقيقيا لكل كائن بشري .

إنا ، على ما تعلمون ، أيها الاخوة والاخوات الاعزاء، نأمل شديد الأمل ان تفسح لنا العناية في المجال للقيام بحجة إلى الارض التي قدّستها احداث تاريخ الخلاص . وانا لنأمل ايضا ان نتمكّن من الصلاة في القدس” وطن قلب جميع المتحدرين الروحيين من ابراهيم، الذين تعزّ عليهم كثيرا ” (يوحنا بولس الثاني. سنة النداء 1984) . وانا لموقنون انه بامكانها ان تصبح “رمزا للقاء العائلة البشرية جمعاء واتحادها وسلامها . (المكان ذاته ص 229) . وبانتظار ان نتمكّن من تحقيق هذا الحلم ، إنا نشجّعكم على مواصلة السير في طريق الثقة ، وانتم تقومون بإشارات صداقة وحسن نية . وإنا نشير إلى  الاعمال اليومية البسيطة ، التي يقوم بها منذ زمن بعيد في مناطقكم ، اناس كثيرون ، متواضعون ، عاملوا دائما باحترام جميع الناس. وانا نشير ايضا إلى أعمال هي نوعا ما بطولية ، اوحى بها احترام صادق للكرامة الانسانية ، وهذا كله سعيا إلى ايجاد طريقة للخروج من حال النزاعات الخطيرة ، فالسلام انما هو خير كبير وملحّ يبرّر تضحيات كبيرة يقوم بها الجميع . 

       لا سلام دون عدالة ، على ما كتب سلفنا المبجّل يوحنا بولس الثاني. لذلك يجب الاعتراف بحق الجميع وإقراره . وأضاف يوحنا بولس الثاني يقول :” لا عدالة دون غفران. واذا لم يكن هناك تغاض عن أخطاء الماضي ، يستحيل الوصول إلى تفاهم يفسح في المجال لحوار بغية تعاون مقبل. فالصفح ، في هذه الحالة ، هو الشرط الذي لا بدّ منه للتفكير بحرية بمستقبل جديد. ومن الصفح المعطى والمقبول ، يمكن ان تولد وتتطور اعمال تضامن كثيرة في خط تلك القائمة بكثرة من منطقتكم بناء على مبادرة الكنيسة ، والحكومات ، والمؤسسات الحكومية . 

       إن انشودة ملائكة بيت لحم “السلام على الارض للناس الذين يرضاهم الله ” تأخذ في هذه الأيام كل أبعادها ، وتعطي منذ الآن ثمارها التي تبلغ مداها في الحياة الابدية. وإنا لنأمل ان يضع زمن الميلاد حدّا او على الاقل ان يخفّف من الكثير من الآلام ، ويولي عائلات كثيرة الأمل الذي لا بدّ منه لتتمكّن من مواصلة الجهود للعمل على تقدّم السلام في عالم لا يزال يعاني من تمزّق وانقسام. 

       تأكّدوا ، ايها الاعزاء، ان صلاة البابا الحارة وكل الكنيسة ترافقكم على هذا الطريق، وشفاعة الشهداء والقديسين الكثر، ومثلهم، يعضدكم ويقوّي إيمانكم وهم الذين شهدوا على ارضكم بشجاعة للمسيح . ولتسهر على حسن نياتكم والتزاماتكم عائلة الناصرة المقدسة . 

       وبهذه العواطف ، نمنح كلا منكم ، من صميم القلب ، بركة رسولية خاصة ، عربونا لمحبتنا وذكرنا الدائم . 

حاضرة الفاتيكان في 21 كانون الاول 2006 . 

 بنديكتوس السادس عشر 

مراجــــع

1 – يو 1:5، 12                                   9 – اعمال 11:29-30

2 – لو 12 : 32                                    10- اعمال 1: 7-11

3 – متى 11: 29                                   11- 1كور6 : 20

4 – متى 2: 11                                    12-1تسا 1: 3

5 – أفسس2 : 14                                  13- 1تسا 8: 18

6 – مر 16 : 15                                   14- 1تسا 1: 6

7 – اعمال 18: 26                                15- 1تسا 1:3-4

8 – لو12 : 32                                     16- روم8: 19-25

شارك مع الأصدقاء!

Facebook
WhatsApp
Email
Twitter
Telegram