أٌصول الحرية

أخذ العجب من بعض الشبان، بينهم الطالب والعامل، لمّا سمعوني أعلن في إحدى محاضراتي: “أنا حر”.

فقالوا: “أتُراك حراً وأنت كاهن؟ أتراك حراً وأنت تنتمي الى كنيسة تقوم على السلطة المنظمة، وقد كبّلتَ ذاتك بنذور الرهبان الثلاثة، وتناضل منذ سنوات ليتاح لك بعثُ مكنونات أفكارك للآخرين؟ ما هي الحرية بالنسبة إليك؟ كيف تتصور الإنسان الحر؟”

هذه الأسئلة العنيفة المخلصة أوحت إليّ بعضَ الخواطر أسوقها في الصفحات التالية، وجُلّ  مبتغاي منها توفير منطق لحوار يعدو السطحية، ويدور حول موضوع شيّق بالضرورة، ولا عجب فالحرية هي ثروة الإنسان الطائلة وهبة الخالق العظمى.

فلو لم تكن الحريّة، لما قُيّضَ للإنسان أن يحب، ولولا الحب لبقي الإنسان وحيداً، مغضوباً عليه، دون إله.

الحرية فَتْح المسيح العظيم. والمسيحية هي دين الحرية. لذا تَرى بولس الرسول يكتب الى أهل غلاطية ما نصه: “لقد دُعيتم الى الحرية” (غل 5/13)، حرية لا تصدر عن الشريعة، بل عن الروح، “فحيث يكون روح الرب، تكون الحرية” (2قور 3/17)، حرية تنبع من صميم الحقيقة، على حد ما كتب القديس يوحنا: “الحق يحرركم” (يو 8/32)، حرية امتزجت والحب إلى أقصى الحدود بحيث قال يوحنا الرسول: “من لا يحب بقي رهن الموت” ( 1 يو 3/15).

فمتى يا ترى أكون حراً حقاً؟

أنا حر عندما أحب ما أعمل وعندما لا أعمل إلاّ ما أحب.

أنا حر إذا ما أحببت الأشياء والناس، فأضحى هؤلاء بعدئذ أكثر حرية وكنت أنا أقل عبودية.

أنا حر عندما أتضور ألَماً واسمع صوتاً يهتف في أحشائي: إنك الآن تُبعث من ممات.

أنا حر عندما أؤمن بإله خلق كل شيء بحرية.

أنا حر عندما أقبل حرية الآخرين.

أنا حر عندما تكون حريتي أثمن من المال.

أنا حر عندما لا يكون الموت في نظري سوى عبور الى ملء الحياة وتمامها.

أنا حر عندما أنجح في أن أكون إنساناً.

أنا حر عندما أتوصل الى اكتشاف ما يكمن من صلاح في كل مخلوق.

أنا حر عندما أؤمن أن لا شيء مستحيل.

أنا حر عندما أذعن في حياتي لسلطان الضمير.

أنا حر إن كانت حريتي لا تُقَدّر بثمن.

أنا حر إن كانت شريعتي الوحيدة هي المحبة.

أنا حر إن كنت أحسن بذل ذاتي في سبيل الآخرين دون أن يكون الشرط امتلاكهم.

أنا حر إن كان صوتي يساهم في تحديد مجرى التاريخ.

أنا حر إن كنت لا أنفك أقول “لا” في وجه الطغيان، حتى لو اضطررت الى المجاهرة بذلك أمام الدبابات.

أنا حر إن كنت لا أنفك أرفع صوتي في غياهب السجن وأطالب بحقي في الحرية.

أنا حر إن كنت أدافع باقتناع وبتجشم الأخطار عن حرية الآخرين.

أنا حر إن كنت لا أهَب حريتي إلاّ لذلك الذي هو، دون سواه، أحبّ إليّ من ذاتي.

أنا حر إن كنت أرتع في اليسر ورغد العيش ، ومع ذلك أفضّل حرية الفقراء وأشتهيها.

أنا حر إن كنت أعاني من العسر وشظف العيش، ومع ذلك أفضل حريتي على غنى الآخرين.

أنا حر إن كنت أؤمن بأن إلهي أعظم من خطيئتي.

أنا حرساعة أُمنى بالإخفاق، وأؤمن رغم ذلك بأن الله والشمس وذاتي نتجدّد كل صباح، وأن كل ساعة هي خلق وابتداء.

أنا حر إذا ما كنت مقتنعاً بإن ما نحققه من خير وصلاح لا ينال منه الخراب.

أنا حرعندما أؤمن بأن رحمة الله أرجح في ميزانه من خبثنا وخطايانا.

أنا حر إن كنتُ أستطيع أن أتبيّن وراء كل ألم، وكل خيانة، وكل ظلم، ثمرةً لخطيئةٍ تضادُّ المحبة.

أنا حر إن كنتُ أقدر أن أسمع في باطن المادة أصواتاً تدعو الى الوحدة، فتعبّر عمّا يختلج من حب في أعماق كل شيء.

أنا حر إن كنت أؤمن وطيد الإيمان بأن إنساناً مثلي عاش وما زال بعد موته يحيا الى الأبد.

أنا حر إن كنتُ أشعر بأنني أصغر من الله ولكني أعظم من كل ما هو مخلوق.

أنا حر إذا ما صفعوني لأني قلت بأن الحرية هي الله، وإن الله يدين كل من يدوس حرية إنسان واحد أو يسيء إليها.

أنا حر لمّا أخاطب الله بِدالّة دون تكلّف.

أنا حر إن كنت أدرك أن الآخرين هم بحاجة إليّ.

أنا حر عندما أشعر بأنني قادر على تطوير الخليقة دون المساس بخالقها.

أنا حر إذا لم أخلط بين السلطة والتسلّط، فنبعَتِ السلطة في نظري من قوة الضمير تُسَخّر لخدمة الآخرين.

أنا حر إذا ما استطعت إبراز انتصاراتي واكتشافاتي ومواهبي وأفكاري، دون أن يحكم عليّ أحد.

أنا حر ساعة أؤمن بالآخرين.

أنا حر ساعة أستطيع حب ما ملكت يديَّ الآن من الحياة، دون أن أهتم للغد.

أناحر ساعة أحسن النظر إلى عيني قريبي، فأرى فيهما نضارةَ أولى نظرات الخالق.

أنا حر إذا ما أحببتُ فاكتشفت أن الحب، الذي هو أساس كياننا، ليس إلاّ ذاك الخالق الذي لا ينفك يحيي ويجدد ما يخلق فينا من سعادة.

أنا حر إن كان الحب وحده قادراً على تقييدي.

أنا حر عندما أؤمن بأن الخلاص يأتيني من الروح لا من الشريعة.

أنا حر عندما أدرك أن “كل شيء حلال ولكن ليس كل شيء بنافع” (الأولى الى أهل كورنتس 10/23).

أنا حر إذا ما احترموا حقي في الإختيار حسبما يمليه عليّ ضميري.

أنا حر إن كنت أستطيع أن أقول “لا” حتى في وجه الله.

أنا حر إن كان بوسعي قبول السعادة التي تأتيني من الآخرين.

أنا حر لمّا أشعر بالخجل من عبودية قريبي.

أنا حر عندما أقبل الآخرين على ما هم عليه، لا كما أريدهم أن يكونوا.

أنا حرإن كنت أحسن الإهتداء بحيث أستطيع السير إلى جانب إخواني في مغامرة مشتركة.

أنا حر إن كانت الحقيقة وحدها تغيّر طريقي.

أنا حر إن كنت أفضّل بذل حياتي في سبيل إنسان، على بذلها في سبيل فكرة.

أنا حر إذا ما أُعطِيتُ القدرة على التخلي عن حقوقي.

أنا حر إن انعدمَت الأصنام في حياتي، وإن لمستُ في الأمور والناس جميعاً حضورَ كائنٍ فريد، شخصي، حر، لا يموت.

أنا حر إن كنت أؤمن بإله لن يندم قط لأنه خلقني حراً.

أنا حر عندما أؤمن بأن الله يَخْلقُ فيَّ.

أنا حر ساعة أستطيع التلفّظ بالكلام الذي استودعني إياه الله، لأساهم في بناء التاريخ.

أنا حر ساعة أدرك أن عملي هو تكملة أعمال الخالق.

أنا حر عندما أوقن أن المخلوقات جميعها تساعدني على تحقيق ذاتي واكتشافها.

أنا حر إن كنت أعيش في جماعة، الشخصُ فيها أهم من التكوين والنظام؟

أنا حر حينما يعترف النظام المدني بأن كل إنسان هو مَلِكُ الإحياء ويسمو على المخلوقات. أنا حر إذا تعذر على الأمور والناس طُراًّ الحلول محل ضميري، وهو كلمة الفصل التي ينطق بها الخالق فيّ.

أنا حر إذا لم يمنعوني من السير وراء ذلك الكائن الخفي -ولكنه الحقيقي- الذي أشعر بضرورته الماسّة لتحقيق ذاتي على أكمل وجه.

أنا حر إن كنت مكموم الفم ومكبّل اليدين، ومع ذلك أنعم بحرية أخي وكأنها حريتي.

أنا حر إن كنت أُقْدِم على الإختيار أياّ كان، لا بدافع المتعة بل لأجد فيه ما يجعل مني إنساناً.

أنا حر إذا ما وُجِد في الدنيا مخلوق واحد يحبني.

أنا حر إن كنت لا أؤمن بالقدر، بل بمشيئة الخالق، وبما أوكَلَتْه إليّ من دور أقوم به في التاريخ.

أنا حر ساعة أنجح في إنماء الحرية من حولي.

أنا حر عندما  أكون أحَبَّ لخير قريبي مني لحريتي ذاتها.

أنا حر عندما أنجح في إقناع الآخرين بحقيقتي، دون أن أقهرهم أو أحط من قدرهم.

أنا حر إذا ما كنت مقتنعاً بأني لست إناءً مليئاً يطفح، بل على العكس بأني لا أنفك بحاجة الى الآخرين.

أنا حر إن كنت لا أيأس من قدرتي على العطاء ولو بشكل محدود.

أنا حر ساعة لا أقبل عدم حريتي.

أنا حر إن كنت أحب أن أكون حراً.

لذا فعندما أشعر من نفسي بأني حر، أشعر بأني أشبه شيء من الله، فأستطيع المساهمة معه في الخلق والعطاء أو بعبارة أخرى في المحبة، أشعر بأني إنسان مسؤول، أشعر بأنه يحق لي أن أُدعى باسمٍ خاص بي، يتلفّظ به الله مرة واحدة فيضفي عليه صفة الخلود والأبدية، أشعر بأني في صميم حياتي مَلِكُ الخليقة، لأنه، والحق يقال: “طوبى للأناس الأحرار فإنهم يرثون الأرض”.

من كتاب “لا أؤمن بهذا الإله”
للكاتب “خوان أرياس”
نقله الى العربية الأب كميل حشيمة اليسوعي

شارك مع الأصدقاء!

Facebook
WhatsApp
Email
Twitter
Telegram